إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل "باتاليبُترا" و "فايشالي"؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس- ولن نذكر في الهند أيام بوذا- أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق؛ فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس