لقد كان من التجارب الطبية العميقة التي نحمد الله عليها أن درسنا هذا العدد الجم من الدراسات والشخصيات التي صادفتنا في تلك القرون الغنية المضطربة. ألا ما أعظم ثراء النهضة الذي لا حد له، وحسبك أنها استطاعت حتى في عهد اضمحلالها أن تنجب رجالا من أمثال تنتورتو وفيررونيزي، وأريتينو فاساري، وبولس الثالث وياليسترينا، وسان سوفينو وبلاديو، والدوق كوزيمو وتشيليني؛ وأنها أثمرت في الفن أمثال قاعات قصر الأدواق، وقبة القديس بطرس! وما أعظم هذه الحيوية المروعة التي كانت تكمن بلا ريب في أولئك الإيطاليين من رجال النهضة الذين يحيط بهم من كل جانب العنف والغواية؛ والخرافات، والحروب، ولكنهم مع ذلك كانوا يحسون أقوى إحساس بكل صورة من صور الجمال وبكل آية من آيات الفن، وينفثون حمم عواطفهم وانفعالاتهم وفنهم، وعمارتهم، واغتيالاتهم، وآيات نحتهم، وصلاتهم الجنسية غير المشروعة، وصورهم وسطورهم، وعذاراهم الجميلة وصورهم المشوهة، وأناشيدهم وأشعارهم المتصنعة، وبذاءتهم وتقواهم، وفجورهم وصلواتهم كأن إيطاليا كلها كانت بركاناً ثائراً يخرج منه هذا كله! ترى هل وجد في أي مكان آخر على ظهر الأرض مثل هذا العمق وهذه القوة في الاستجابة إلى الحياة! إننا لا نزال إلى هذا اليوم نشعر بقوة هذا الوحي، وإن متاحفنا لتفيض بما لا تتسع له من روائع هذا العصر الملهم المحسوس.
وإنا ليصعب علينا أن نصدر عليه حكماً هادئاً؛ وإذا ما أعدنا على القارئ ما وجه إليه من التهم فإنا نفعل ذلك كارهين، وأول هذه التهم أن النهضة (ونحن نقصر هذا اللفظ على النهضة في إيطاليا) قامت من الناحية المادية على الاستغلال الاقتصادي للكثرة الساذجة على أيدي القلة البارعة.