ذلك أن ثروة روما البابوية قد جاءت من النقود الصغيرة التي تبعث بها آلاف الآلاف من بيوت الصالحين الأتقياء في أوربا؛ وإن بهاء فلورنس كان مصدره عرق الدهماء المغمورين الذين كانوا يكدحون الساعات الطوال، وليس لهم حقوق سياسية، ولم يكونوا يمتازون عن رقيق الأرض في العصور الوسطى إلا باشتراكهم في زهو وخيلاء في مجد الفن المدني ولألائه، وفي حياة المدنية الثائرة وما فيها من دوافع ومغريات، وكانت النهضة من الناحية السياسية هي إحلال الألجاركيات التجارية، والدكتاتوريات العسكرية محل حكومات المدن الجمهورية المستقلة، كما كانت من الناحية الأخلاقية انتقاضاً وثنياً قوض الدعامة الدينية للقانون الأخلاقي، وأطلق العنان للغرائز البشرية، وترك لها حرية فظة لا يتورع أصحابها عن استخدام الثروة الجديدة التي آلت إليهم عن طريق التجارة والصناعة كما يحلو لهم دون وازع من ضمير أو دين. أما الدولة، بعد أن خرجت من رقابة الكنيسة، التي أضحت هي نفسها سلطة زمنية وعسكرية، فقد نادت بأنها فوق القوانين الأخلاقية في الحكم، والدبلوماسية، والحرب.
وكان فن النهضة (ونحن نواصل سرد التهم) جميلا، ولكنه قلما كان سامياً رفيعاً، فقد كان يفوق الفن القوطي في تفاصيله، ولكنه ينقص عنه في العظمة، والوحدة، والأثر الكلي فيمن يشاهده؛ وقلما كان يصل إلى كمال الفن اليوناني أو جلال الفن الروماني؛ وكان هو صوت أرستقراطية ذات ثروة، فرقت بين الفنان والصانع الماهر، وانتزعته من الشعب انتزاعاً، وجعلته يعتمد على الأمراء وأصحاب الثراء المحدثين، وفقد هذا الفن روحه حين استسلم لعهد ميت قديم، وأذل العمارة والفن وأخضعهما لأشكال قديمة أجنبية عنهما. وهل ثمة ما هو أكثر سخفاً من وضع واجهات يونانية- رومانية للكنائس القوطية كما فعل البيرتي في فلورنس وريميني! وربما كان إحياء الفن القديم من أوله إلى آخره من الأخطاء المفجعة. ذلك أن الطراز إذا مات لا يمكن أن تبعث فيه الحياة إذا عادت الحضارة التي يعبر عنها