لقد كان إنكار بارمنيدس للحركة والتغير بمثابة ثورة على ميتافيزيقية هرقليطس المائعة المزعزعة، وكذلك كانت عقيدة وحدة الكون ثورة عنيفة على عقائد الفيثاغوريين المتأخرين. ذلك أن هؤلاء الفلاسفة قد حولوا نظرية الأعداد التي قال بها كبيرهم إلى المبدأ القائل بأن الأشياء جميعها تتكون من أعداد أي من وحدات غير قابلة للانقسام (١٢). ولما أن أضاف فيلولوس الطيبي إلى هذا المبدأ أن "الأشياء جميعها تحدث بالضرورة والتوافق"(١٣) كان كل شي قد أعد لظهور المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد في الفلسفة اليونانية.
ففي عام ٤٣٥ جاء لوقيبوس الملطي إلى إيليا وتلقى العلم على زينون. ولعله قد سمع هناك بالذرية العددية التي يقول بها الفيثاغوريون، ذلك أن زينون كان قد وجه بعض متناقضاته الدقيقة إلى عقيدة التعدد (١٤). واستقر لوقيبوس آخر الأمر في أبدرا وهي مستعمرة أيونية مزدهرة في تراقية. وقد ضاعت تعاليمه المباشرة فلم يبق منها إلا هتامة صغيرة هي قوله:"لا شي يحدث من غير علة، بل إن الأشياء كلها تحدث لعلة، وبالضرورة"(١٥).
ولعل لوقيبوس قد أوجد فكرة الفراغ ليرد بها على أقوال زينون وبارمنيدس، وكان يأمل بهذه الطريقة أن يجعل الحركة مستطاعة من الوجهة النظرية كما هي واقعية من الناحية الحسية. ويقول: إن العالم يحتوي على جواهر فردية وعلى فراغ ولا شي غيرهما، وإن هذه الجواهر التي تتساقط في دوامة كبرى تسقط بالضرورة إلى الصور الأولية للأشياء جميعها، وينضم كل شي