للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفصل الثالِث

[أخلاق الانحلال]

لقد عجل فشل نظام دول المدائن تدهور الدين القديم؛ ذلك أن آلهة المدينة قد ثبت عجزها عن حمايتها، ومن أجل هذا تزعزع إيمان الناس بهذه الآلهة. واختلط أهلها بالتجار الأجانب الذين لم يكن لهم نصيب في حياة البلد المدنية والدينية والذين انتشر تشككهم ولهوهم بين المواطنين. على أن أساطير الآلهة المحلية القديمة قد بقيت بين الفلاحين والسذج من سكان المدن، وبقيت كذلك في الطقوس الرسمية، وظل المتعلمون يستخدمونها في الشعر والفن؛ أما من تحررت من عقائدهم بعض التحرر من سلطانهم فأخذوا يهاجمونها بعنف. غير أن الطبقات العليا ظلت تستمسك بها وتستعين بها على حفظ النظام، وتقاوم الإلحاد الصريح وتعده شاهداً على فساد الذوق. ولما قامت دول كبيرة أدى قيامها هذا إلى توحيد الآلهة واندماجها هي الأخرى، وسرت في نفوس الناس نزعة غامضة نحو التوحيد، وحاول الفلاسفة أن يصوغوا للأدباء مذهب وحدة الوجود في صيغة لا تتعارض تعارضاً صريحاً كل الصراحة مع العقائد الثابتة القديمة. من ذلك أن أوفمروس Euphemerus أحد سكان مسانا في صقلية نشر حوالي عام ٣٠٠ ق. م. كتابه المسمى هيرا أنجرافا Hiera Anagrapha (ومعناها الحرفي الكتابات أو السجلات المقدسة)، والذي قال فيه إن الآلهة إما أن تكون قوى طبيعية جسدها الناس، وإما أن تكون-وهذا هو الأغلب الأعم-أبطالاً آدميين ألَّههم خيال الشعب أو عبدهم اعترافاً بفضلهم على بني الإنسان؛ وإن الأساطير هي إلا استعارات وتشبيهات، وإن الاحتفالات الدينية كانت في الأصل مراسم تخليداً لذكرى الموتى. فزيوس