كان ثمة هوة في الشخصية والخلق والفكر تفصل بين سبينوزا وليبنتز، فهناك اليهودي المنعزل، الذي لفظته اليهودية، والذي لم يتقبل المسيحية، الذي عاش في أحضان الفقر في حجرة متواضعة، وأنجز كتابين أثنين، وأخرج في أناة فلسفة أصيلة جريئة يمكن أن تنفر منها كل الديانات، والذي قضى نحبه متأثراً بالسل في الرابعة والأربعين، إلى جانب الألماني رجل الدنيا المشغول برجال الدولة والبلاط، الذي جال في كل أنحاء أوربا الغربية تقريباً، الذي دس بأنفه في روسيا والصين، وقبل البروتستانتية والكاثوليكية، ورحب بعديد من مناهج الفكر واستخدمها. وكتب خمسين رسالة، وأحب الله كما أحب الدنيا، في تفاؤل شديد، وعمر سبعين عاماً، وليس بينه وبين سلفه من وجه شبه إلا أن جنازة كل منهما كانت موحشة. وهنا في جيل واحد ظهر النقيضان في الفلسفة الحديثة.
ولكن قبل أن نتناول الصورة المتقلبة والمتعددة الألوان لرجل، فلنتعرف ببعض فضل يسير للفكر الألماني. فقد بدأ صمويل فون بوفندورف مسيرته في ١٦٣٢، وهو نفس العام الذي بدأ فيه سبينوزا ولوك. وبعد أن درس في ليبزج ويينا قصد إلى كوبنهاجن معلماً في أسرة أحد الدبلوماسيين السويديين، واعتقل معه عندما أعلنت السويد الحرب على الدنمرك، وخفف من ضجر السجن بوضع نهج للقانون الدولي، فلما أطلق سراحه رحل إلى ليدن حيث نشر نتائج بحثه تحت عنوان "عناصر القانون الدولي"(١٦٦١)، الذي سر به شارل لويس ناخب البلاتينات (وهو نفس الأمير الذي دعا سبينوزا فيما بعد) إلى حد أن الناخب استدعى المؤلف إلى هيدلبرج، وأنشأ له كرسي الأستاذية