في الحق المدني، المساواة الطبيعية بين البشر، أنه الصوت السماوي الذي يملي على كل مواطن مبادئ العقل العام" (١٤٠).
ولعل محرري الموسوعة المطاردين كانوا قد نبهوا روسو إلى التخفيف في هذا المقال من هجومه على الحضارة. وسنجده بعد سبع سنوات، في كتابه "العقد الاجتماعي" يدافع عن الجماعة ضد الفرد، ويقيم فلسفته السياسة على فكرة الإرادة العامة المقدسة السامية. على أنه لم يزل خلال ذلك فردياً وثائراً يبغض باريس، ويؤكد ذاته ضد أصدقائه، ويصنع كل يوم أعداء جدداً.
[٩ - الهروب من باريس]
١٧٥٦
كان أصدقاؤه الحميمون الآن هم جريم، وديدور، ومدام دينييه. أما جريم فقد ولد في راتزبون عام ١٧٢٣، فكان بذلك يصغر روسو بأحد عشر عاماً. وقد تعلم في ليبزج في العقد الأخير من حياة باخ، وتلقى عن أوهان أوجست إرنشتي أساساً مكيناً في لغتي اليونان والرومان وآدابهما. فلما وفد على باريس في ١٧٤٩ تعلم الفرنسية بما عرف عن الألمان من إتقان ودقة، وما لبث أن وافى مجلة المركيز بمقالاته. وفي ١٧٥٠ أصبح السكرتير الخاص للكونت فون فريزن. وأغراه حبه للموسيقى بالتعلق بروسو، كما رماه جوع أكثر عمقاً تحت قدمي الآنسة فل المغنية بالأوبرا، فلما آثرت عليه المسيو كاهوزاك، يقول روسو أن جريم:
"حز في نفسه حتى أصبحت إمارات خطبه مأساوية-فكان ينفق الأيام والليالي في تراخ وتبلد. ويرقد وعيناه مفتوحتان .. لا يتكلم، ولا يأكل، ولا يتحرك .. وكنت والأبيه رينال نرعاه، فالأبيه-وكان أشد مني وأصح-يسهر عليه ليلاً، وأنا أرعاه نهاراً، فلا نغيب عنه معاً في وقت واحد" (١٤١).
واستدعى فون فريزن طبيباً يعوده، فأبى أن يصف له دواء غير الزمن. وأخيراً ذات صباح، قام جريم، وارتدى ثيابه، واستأنف نظام حياته العادي، دون أن يذكر يومها أو بعدها .. هذا التبلد الشاذ (١٤٢).