كيف نجمل القول في شخصية هذا الرجل المذهل جداً من رجال القرن الثامن عشر؟ لم يعد بنا حاجة للحديث عن عقله-فقد أفصح عن نفسه في مائة صفحة من هذه المجلدات. ولم يباره أحد في سرعة الخاطر ووضوح الفكر، ولا في حدة النكتة ووفرتها، وقد عرف النكتة الذكية بعناية بالغة فقال:
"إن ما يسمى النكتة الذكية هو أحياناً مقارنة مجللة، وأحياناً كناية رقيقة، أو قد يكون لعباً بالألفاظ-فأنت تستعمل لفظاً بمعنى، علماً أن محدثك سيأخذه (لأول وهلة) بمعنى آخر. أو هو طريقة ماكرة للمقرنة بين أفكار لا يقرن الناس بينها عادة … إنه فن إيجاد صلة بين نقيضين، أو خلاف بين شبيهين؛ إنه فن قول نصف ما تعني وترك الباقي للخيال. ولو أوتيت المزيد منه شخصياً لزدت القول فيه كثيراً"(٩٣).
ولم يؤت إنسان آخر مزيداً من هذه النكتة الذكية، ولعل حظه هو منها كان كما قلنا مفرطاً. فقد كان زمام حبه للدعابة يفلت منه أحياناً، وكثيراً ما غلظت دعايته وأشرفت على التهريج أحياناً.
ولم تترك له سرعة إدراكاته، وربطاته، ومقارناته، وقفة تتيح له الاتساق والتماسك، ولم يسمح له تعقب أفكاره السريع دائماً وهو يتناول موضوعاً بالتغلغل فيه إلى أعماقه المتاحة للبشر. ولعله تسرع في الحكم على الجماهير بأنهم رعاع؛ وليس في وسعنا أن نتوقع منه التنبؤ بزمن سيكون فيه التعليم للجميع ضرورياً لاقتصاد تقدمي من الناحية التكنولوجية. ومل يطيق صبراً علم نظريات بوفون الجيولوجية، أو فروض ديدرو البيولوجية. وقد اعترف بقصوره، ولم يخلُ من لحظات تواضع. قال لصديق مرة "إنك تظنني أعبر عن نفسي بوضوح كافٍ. ولكنني أشبه بالجداول الصغيرة-فهي صافية شفافة لأنها ليست عميقة"(٩٤) وكتب إلى داكان في ١٧٦٦: