ترى هل كان قسطنطين حين اعتنق المسيحية مخلصاً في عمله هذا؟ وهل أقدم عليه عن عقيدة دينية، أو هل كان ذلك العمل حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية؟ أكبر الظن أن الرأي الأخير هو الصواب (٣٣). لقد اعتنقت أمه هلينا الدين المسيحي حين طلقها قنسطنطيوس؛ ولعلها أفضت إلى ولدها بفضائل المسيحية، وما من شك في أنه تأثر بما ناله من انتصارات في المعارك الحربية التي خاض غمارها مستظلاً بلواء المسيح وصليبه. ولكن المتشكك وحده هو الذي يحتال هذا الاحتيال على استخدام مشاعر الإنسانية الدينية لنيل أغراضه الدنيوية. ويقول صاحب كتاب تاريخ أغسطس Historia Augusta على لسانه: "إن الحظ وحده هو الذي يجعل الإنسان إمبراطوراً"(٣٤) - وإن كان قوله هذا تواضعاً منه لا اعتقاداً بسيطرة الظروف على مصائر الناس. وقد أحاط نفسه في بلاطه ببلاد غالة بالعلماء والفلاسفة الوثنيين (٣٥)؛ وكلما كان اعتناقه دينه الجديد يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس، ويتضح من رسائله التي بعث بها إلى الأساقفة المسيحيين أنه لم يكن يعنى بالفروق اللاهوتية التي كانت تضطرب لها المسيحية - مع أنه لم يكن يتردد في القضاء على الانشقاق محافظة على وحدة الإمبراطوريّة. وقد كان في أثناء حكمه كله يعامل الأساقفة على أنهم أعوانه السياسيون؛ فكان يستدعيهم إليه، ويرأس مجالسهم، ويتعهد بتنفيذ ما تقره أغلبيتهم من آراء. ولو أنه كان مسيحياً حقاً أولاً وحاكماً سياسياً بعدئذ؛ ولكن الآية انعكست في حال قسطنطين، فكانت المسيحية عنده وسيلة لا غاية.