ولقد شهد في حياته كيف أخفق الاضطهاد ثلاث مرات، وانطبع في نفسه بلا ريب انتصار المسيحية رغم كل اضطهاد. نعم إن أتباع هذا الدين كانوا لا يزالون قلة في الدولة، ولكنهم كانوا إذا قيسوا إلى غيرهم قلة متحدة، مستبسلة قوية، على حين أن الأغلبية الوثنية كانت منقسمة إلى عدة شيع دينية، وكان فيها عدد كبير من النفوس التي لا عقيدة لها ولا نفوذ في الدولة. وكان المسيحيون كثيرين في روما بنوع خاص في عهد مكسنتيوس، وفي الشرق في أيام ليسنيوس؛ وقد أفاد قسطنطين من تأييد المسيحية اثنا عشر فيلقاً لاقى بها هذين القائدين. ولقد اعجب بجودة نظام المسيحيين إذا قيسوا بغيرهم من سكان الإمبراطوريّة، وبمتانة أخلاقهم، وحسن سلوكهم، وبجمال الشعائر المسيحية وخلوها من القرابين الدموية، وبطاعة المسيحيين لرؤسائهم الدينيين، وبرضاهم صاغرين بفوارق الحياة رضاء مبعثه أملهم في أنهم سيحظون بالسعادة في الدار الآخرة. ولعله كان يرجو أن يطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان. ويعيد إلى الأسرة ما كان لها من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات، وقلما كان المسيحيون يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الاضطهاد الشديد، ذلك بأن معلميهم قد غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقنوهم حق الملوك المقدس. وكان قسطنطين يأمل أن يكون ملكاً مطلق السلطان، وهذا النوع من الحكم يفيد لا محالة من تأييد الدين، وقد بدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظاماً روحياً يناسب نظام الملكية، ولعل هذا النظام العجيب بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها.
لكن قسطنطين اضطر إلى أن يتحسس كل خطوة يخطوها بحذر، لأن الوثنية كانت هي الغالبة على العالم الذي يعيش فيه. ولذلك ظل يستخدم ألفاظاً توحيدية يستطيع أن يقبلها كل وثني، وقام خلال السنين الأولى من سلطانه