وكان من حق القرطاجنيين أن يوجسوا في أنفسهم خيفة، لأن اليونان شيدوا مدناً عامرة على ساحل إفريقية الشمالي نفسه وأخذوا يستولون على تجارته. فقد أرسل الدوريون أهل ثيرا منذ عام ٦٣٠ جالية كبيرة إلى قورين في منتصف الطريق بين قرطاجنة ومصر. ووجدوا فيها على حافة الصحراء تربة خصبة ومطراً بلغ من غزارته أن قال عنه أهل البلاد إن في السماء من فوقهم فرجة تنصب منها الأمطار. واستخدم اليونان بعض الأرض للرعي، وأصدروا منا إلى الخارج الأصواف والجلود، واستنبتوا من نبات الأنجدان تابلاً كانت بلاد اليونان بأجمعها تحرص على شرائه؛ وكانوا يبيعون غلات بلادهم إلى إفريقية، وارتقوا بحرفهم اليدوية إلى حد جعل المزهريات القورينية من أحسن مزهريات العالم.
وانتفعت المدينة بثروتها على خير وجه وأحكمه، وازدانت بالحدائق الغناء، وبأعظم الهياكل والتماثيل وحلبات الألعاب. وفيها ولد ارستبوس Aristippus أول فيلسوف أبيقوري ذائع الصيت، وإليها عاد بعد تجوال طويل ليؤسس المدرسة القورينية.
وحط اليونان رحالهم في مصر نفسها وهي المعروفة بكراهيتها لاستيطان الأجانب بها (١)؛ وأنشئوا لهم فيها آخر الأمر إمبراطورية. فقد أنشأ الميليتيون حوالي عام ٦٥٠ محطة تجارية عند نقراطيس على فرع النيل الكانوبي. وسمح
(١) هذا ما يؤيد التاريخ نقيضه فقد كانت مصر على الدوام كريمة مضيافة لنزلائها الأجانب الصالحين ينعمون بخيراتها كما ينعم بها أبناؤها. (المترجم)