لهم أبسماتيك الأول فرعون مصر بإنشائها لأنهم يصلحون لأن يكونوا جنوداً مرتزقين، ولأن تجارتهم كانت غنية طيبة له يحصل منها جباتُه على ضرائب جمركية عالية (٦٧). ووهبهم أحمس الثاني قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي؛ وأصبحت نقراطيس مدينة صناعية أو كادت، تنتج الفخار، والقرميد، والخزف الرقيق؛ وأهم من هذا أنها أصبحت مستودعاً تجارياً عظيماً، يأتي إليها زيت بلاد اليونان وخمرها، وترسل قمح مصر وتيلها وصوفها، وعاج إفريقية وعطورها وذهبها. وانتقلت مع هذه المتاجر معارف مصر، وطقوسها الدينية، وعمارتها، ونحتها، وعلومها الطبيعية إلى بلاد اليونان، كما دخلت مصر مع غلات اليونان ألفاظهم وأساليبهم في الحياة، فمهدت السبيل إلى سيطرة اليونان على مصر في العصر الإسكندري.
وإذا تصورنا مركباً يونانياً يسير من نقراطيس إلى أثينة؛ أتممنا بذلك طوافنا حول العالم اليوناني. ولقد كان واجباً علينا أن نطوف هذا الطواف الطويل لكي ندرك مدى الحضارة الهيلينية ونشعر باختلاف مظاهرها. ولقد قص علينا أرسطاطاليس تاريخ النظام الدستوري في ١٥٨ دولة من دول المدن اليونانية، ولكنه أغفل تاريخ ألف مدينة غيرها. لقد كانت كل واحدة منها تضطلع بنصيبها في تجارة البلاد التي نطلق عليها اسم بلاد اليونان، وصناعتها، وتفكيرها. وفي المستعمرات لا في أرض اليونان الأصلية ولد فنا الشعر والنثر اليونانيان، ونشأت علوم الرياضة وعلوم ما وراء الطبيعة، والخطابة والتاريخ، اليونانية. ولولا هذه المستعمرات وعشرات المئات من اللوامس الماصة التي بثتها في العالم القديم تمتص بها ما فيه من علم وفن وثقافة، ولولا هذه وتلك لما وجدت الحضارة اليونانية وهي أثمن نتاج التاريخ بأجمعه، وعن طريق هذه المستعمرات واللوامس انتقلت حضارة مصر والشرق إلى بلاد اليونان، وانتشرت الثقافة اليونانية انتشاراً بطيئاً في آسية وإفريقية وأوربا.