"الهمجي" هو أيضاً متمدن بمعنى هام من معاني المدنية، لأنه يُعنى بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه- وما تراث القبيلة إلا مجموعة الأنظمة والعادات الاقتصادية والسياسية والعقلية والخلقية، التي هذبتها أثناء جهادها في سبيل الاحتفاظ بحياتها على هذه الأرض والاستمتاع بتلك الحياة، ومن المستحيل في هذا الصدد أن نلتزم حدود العلم، لأننا حين نطلق على غيرنا من الناس اسم "الهمج" أو "المتوحشين" فقد لا نعبر بمثل هذه الألفاظ عن حقيقة موضوعية قائمة، بل نعبر بها عن حبنا العارم لأنفسنا لا أكثر؛ وعن انقباض نفوسنا وانكماشها إذا ما ألقينا أنفسنا إزاء ضروب من السلوك تختلف عما ألفناه؛ فلا شك أننا نبخس من قيمة هاتيك الشعوب الساذجة التي تستطيع أن تعلمنا كثيراً جداً من الجود وحسن الخلق؛ فلو أننا أحصينا أسس المدنية ومقوماتها لوجدنا أن الأمم العُريانة قد أنشأتها أو أدركتها جميعاً إلا شيئاً واحداً، ولم تترك لنا شيئاً نضيفه سوى تهذيب تلك الأسس والمقومات لو استثنينا فن الكتابة، ومن يدري فلعلهم كذلك كانوا يوماً متحضرين ثم نفضوا عن أنفسهم تلك الحضارة لما لمسوه فيها من شقاء النفس؛ وعلى ذلك فينبغي أن نكون على حذر حين
(١) على الرغم من الاتجاه الحديث الذي يخالف رأينا مخالفة شديدة (Spengler O، The Decline of the West; The Hour of Decision.) فسنستخدم كلمة "مدنية" أو "حضارة" في هذا الكتاب لتدل على النظام الاجتماعي والتشريع الخلقي والنشاط الثقافي؛ وسنستخدم كلمة "ثقافة" لتدل إما على ما يمارسه الناس فعلاً من ألوان السلوك وأنواع الفنون وإما على مجموع ما لدى الشعب من أنظمة اجتماعية وعادات وفنون، وسيدل السياق على أي المعنيين هو المقصود؛ فإذا كانت الإشارة في الحديث إلى المجتمعات البدائية أو جماعات ما قبل التاريخ فإن المعنى لكلمة "ثقافة" هو المقصود.