إذا عدنا بتفكيرنا إلى الحضارة المتعددة النواحي التي صورنا بعض قممها في الصفحات الماضية، بدأنا ندرك ما كان اليونان يدافعون عنه في مرثون. ذلك أن بحر إيجة يبدو كثول من النخل اليوناني العامل، المتنازع، اليقظ، المبتدع، يستقر معانداً في كل ثغر، وينتقل باقتصاده من الحرث والزرع إلى الصناعة ثم إلى التجارة، ويبتدع كل ذي روعة من الأدب والفلسفة والفن. ومما يثير الدهشة والإعجاب أن تنضج هذه الثقافة الجديدة بهذه السرعة وتنتشر هذا الانتشار الواسع، وأن تضع في القرن السادس جميع الأسس التي قامت عليها أعمال القرن الخامس المجيدة. ولقد كانت هذه الحضارة من بعض نواحيها أجمل وأرق من حضارة عصر بركليز- فقد كانت أرقى منها في شعر الملاحم والشعر الغنائي، ينعشها ويزينها ما كان للنساء من حرية أوسع ونشاط ذهني أعمق مما كان لهن في عصر بركليز. ولقد كان هذا العصر المتقدم أحسن حكماً من بعض الوجوه من العصر المتأخر الذي كان أكثر منه دمقراطية، بل إن أسس الدمقراطية نفسها قد وضعت في ذلك القرن؛ ذلك أنه قبل أن ينتهي كان حكم الطغاة قد علم اليونان من النظام ما يكفي لجعل الحرية اليونانية مستطاعة الوجود.
وكان تحقيق الحكم الذاتي حدثاً جديداً في العالم، لأن الحياة من غير الملوك لم يكن قد جرؤ عليها مجتمع كبير في العالم قبل ذلك الوقت. ونشأ من هذا المعنى الجليل، معنى الاستقلال الفردي والجماعي، حافز قوي لجميع مغامرات اليونان. وكانت حريتهم هي التي ألهمتهم ما أبدعوه في الفنون والآداب،