تكتنف بحار الصوفية جزائر العلم والفلسفة أينما كانت، ذلك أن العلم يضيق الآمال، ولا يستطيع أن يتحمل عبأه راضين إلا من أسعدهم الحظ. وقد بسط يهود العصور الوسطى على الحقيقة، كما بسط عليها المسلمون والمسيحيون، ستاراً من آلاف الخرافات، وصوروا التاريخ تصويراً مسرحياً بما أدخلوه فيه من المعجزات ومن البشائر والنذر، وملأوا الهواء بالملائكة والشياطين، ومارسوا فنون السحر وتلاوة الرقي والتمائم، وأخافوا أنفسهم وأبنائهم بالحديث عن الساحرات والأغوال، وأضاءوا ظلمة النوم وغموضه بما وضعوه من تفسير للأحلام، وتبينوا في الكتابات القديمة أسراراً خفية باطنية.
والتصوف اليهودي قديم قدم اليهود أنفسهم، تأثر بالأثينية الزرادشتية القائلة بالظلمة والنور، وبالأفلاطونية الحديثة وباستبدالها الفيض الإلهي بعملية الخلق، وما تقول به الفيثاغورية الحديثة من أن للأعداد قوى خفية وأسراراً، وبالثيوصوفية الغنوسطية (مذهب الاتصال بالله أو الفناء بالذات والبقاء بالله) السائدة في سوريا ومصر؛ والكتب المسيحية الأولى الدينية المشكوك في صحتها (الأبوكريفا)، وبالشعراء والمتصوفة في الهند ومصر، وبكنيسة العصور الوسطى المسيحية. لكن مصادرها الأساسية كانت كامنة في عقلية اليهود أنفسهم وتقاليدهم. ولقد انتشرت بين اليهود قبل مولد المسيح نفسه، شروح سرية لقصة الخلق الواردة في سِفر التكوين وفي الإصحاحين الأول والعاشر من سِفر حزقيال؛ وقد حرمت المشنا شرح هذه الخفايا إلا لعالم منفرد موثوق به. وكان الخيال حراً طليقاً يتصور ما كان قبل خلق آدم، وما سوف يكون بعد فناء