تفوقت المسارح على الصالونات من حيث المكانة التي احتلتها في باريس، وما حظيت به من حب وإقبال بين الباريسيين. ويقول فولتير لمارمونتيل:"إن المسرح أعظم مهنة سحراً وفتنة، ففيه يكسب المرء بين عشية وضحاها جاهاً ومالاً، وإن رواية واحدة تأتي لصاحبها بالثروة والشهرة"(٣). وكانت هناك في الأقاليم مسارح لا بأس بها، وكان ثمة تمثيل مسرحي خاص في بيوت الأغنياء، بعض المسرحيات أمام الملك والحاشية في فرساي. ولكن التحمس للروايات في باريس بلغ حد الجنون والحمى والجدل والشجار أو الابتهاج والسرور. واحتفظت "الكوميدي فرنسيز" في "المسرح الفرنسي" بأعلى الدرجات في الموضوع والأداء، ولكن الجماهير الغفيرة كانت تقصد إلى "مسرح الإيطاليين" ومسرح "الأوبراكوميك".
وتألفت كل هذه المسارح، ودار الأوبرا في "الباليه رويال" من قطاعات فسيحة بها عدة صفوف من المقصورات والمقاعد للقلة التي يفوح منها شذا العطر، أما جمهور المشاهدين الأقل تبرجاً وثراء فكانوا يقفون تحت الشرفات الداخلية، (على الأرض) التي نسميها خطأ. "الأوركسترا" ولم توضع فيها مقاعد حتى جاءت الثورة. وكان نحو ١٥٠ من المتحمسين المتأنقين الذين يدفعون أجراً أكبر، ويجلسون على خشبة المسرح، يحيطون بالممثلين من ثلاثة جوانب. وقد استنكر فولتير هذه العادة، لأن هذا كان يعوق الممثلين ويفسد المنظر. "لما كانت معظم رواياتنا لا تعدو أن تكون حواراً طويلاً، فإن التمثيل المسرحي لا يكون له وجود، أو إذ وجد بداً سخيفاً (٤) وتساءل كيف يتسنى لممثل مسرحي أن يمثل على مثل هذا المسرح مشهد بروتس ثم أنطوني وهما يخطبان في أهل روما بعد قتل قيصر؟ وكيف يمكن "للروح" المسكين في هملت أن يسترق النظر من خلال هذه الهياكل العظيمة المتمتعة بامتياز الجلوس على خشبة المسرح؟ إنه ليكاد يكون من المتعذر تمثيل أي من روايات شكسبير في مثل هذه الظروف (٥) وكان لاعتراضات فولتير القوية، التي أيده فيها ديدرو وغيره، أثرها فما وافى عام ١٧٥٩ حتى كانت خشبة المسرح في فرنسا قد أخليت من المتفرجين.