وحكومتها بل إلى حد ما عقل العالم وعقيدته وحكوماته. ولم يحدث قط أن وجد في الأدب من قبل مثل هذا الذكاء الحاد أو المزاج الرقيق أو هذا التهريج الماجن أو هذا السخف المهلك، وتصدعت كل القواعد التقليدية في الكنيسة والدولة تحت ضغط الهجمات التي شنتها تلك الأقلام الحادة، المسمومة أحياناً، المغمورة أو المجهولة عادة.
إن الرسائل الخاصة نفسها أصبحت قناعاً شائعاً. فما من سيدة أو رجل إلا نقح رسائله وأعاد كتابتها وصقلها وتأنق فيها أملاً في أن يطالعها أكثر من شخص الذي أرسلت إليه فتتألق أمام العيون وتكون متعة لقارئيها، كذلك نجحوا أحياناً في أن تكون رسائلهم "كتابات ممتازة" أي قطعاً من الأدب. وبسبب حبهم للحديث والمناقشة فإنهم تحدثوا على الورق إلى الأصدقاء أو الأعداء الغائبين عنهم، بشكل طبيعي وكأنما يخاطبونهم وجهاً لوجه، وبكل الحماسة والحيوية اللتين تدور بهما أحاديثهم حول المائدة في الصالونات. ولم تكن تلك الرسائل تتضمن مجرد توافه الأخبار الشخصية، بل كانت في معظم الأحوال نقاشاً في السياسة والأدب والفن، وكانت في بعض الأحيان نثراً-لغة المجتمع-يزخر بالسجع الذي كثيراً ما يأتي عفو في الفرنسية، مع أكبر الأمل في إطراء القارئ لها، وهكذا كان فولتير يدخل السرور على قلوب أصدقائه بسلسلة القصائد التي يبعث بها إليهم، مما كانت تفيض به قريحتهم الوقادة وفنه الرشيق.
وآذن عصر الخطابة بزوال، لأن فرنسا القرن الثامن عشر خشيت أن يتولاها السأم والضجر حتى لو استمعت إلى بوسويه آخر (أسقف وخطيب واعظ في القرن السابع عشر). ولكن الخطابة ستعود مع قيام الثورة. وكانت كتابة "المذكرات" لا تزال سائدة، لأنها باعتبارها رسائل إلى الأعقاب والأجيال القادمة. احتفظت بشيء من سحر المكاتبات وفتنتها. وفي نهاية الحقبة، وفي ١٧٥٥ وصلت إلى المطبعة مذكرات البارونة مدام دي ستال لوني قد فارقت الحياة ١٧٥٠، وقد أعادت هذه المذكرات إلى الأذهان ذكريات عهد الوصاية وأمسيات دي سكو. وهنا كما يقول جريم، كانت سيدة نافست فولتير نفسه بامتيازها وبراعتها في النثر (٢).