إن في فيينا اليوم من الجمال ما يصعب معه علينا أن نتصور حالها عقب حرب الثلاثين، صحيح أن النمسا لم تقاس ما قاسته ألمانيا من ويلاتها، ولكن خزانتها نضبت، وجيوشها تهلهلت، وهبط صلح وستفاليا بسمعة الأباطرة وقوتهم. على أن ظرفاً واحداً كان في صفها. ذلك أن ليوبولد الأول خلف أباه فرديناند الثالث على العرش الإمبراطوري في ١٦٥٨ وظل متربعاً عليه طوال سبعة وأربعين عاماً، ومع أن هذا الحكم الطويل سمع العثمانيين يقرعون أبواب فيينا مرة أخرى، فإن النمسا أخذت تفيق من كبوتها سريعاً. وكان ليوبولد ملكاً على الإمارات الألمانية اسماً لا فعلاً، ولكنه كان الملك الفعلي لبوهيميا وغربي المجر، وكان يحكم دوقيات استيريا، وكارنثيا، وكارنيولا، وكونتية التيرول. ولم يكون بالحاكم العظيم، كان يكد ويكدح بشعور الواجب في الإدارة وتشكيل السياسة، ولكنه افتقر إلى الرؤية البعيدة التي أوتيها أسلافه من آل هابسبورج، فلم يرث منهم غير لاهوتهم وشكل ذقونهم. وكان قد درب أصلاً للكهانة، ولم يفق قط حبه لليسوعيين، أو ينحرف كثيراً عن إرشادهم. ومع أن أخلاقه الشخصية كانت نقية لا عيب فيها، فإنه قبل المبدأ الذي يحتم جعل جميع رعاياه كاثوليكاً، ونفذ سياسته بأوتقراطية صارمة في بوهيميا والمجر. وكان ميالاً إلى السلم، ولكنه أكره أو سيق إلى سلسلة من الحروب بسبب اعتداءات لويس الرابع عشر والعثمانيين. وقد وجد فيهما بين عمليات إراقة الدماء هذه وقتاً للشعر والفن والموسيقى، ألف الموسيقى بنفسه، وشجع الأوبرا في فيينا، فعرضت بها أربعمائة أوبرا جديدة في السنين الخمسين التالية لاعتلائه العرش. ويدلنا نقش يرجع إلى عام ١٦٦٧ على أن المدينة كانت تملك دار أوبرا فخمة، ذات ثلاثة صفوف من الألواج، وكل مقعد فيها مشغول. وهكذا نرى أن هذه الدعامة المبهجة للغناء قديمة جداً.
وعلينا أن ننظر إلى النمسا في هذا العصر على أنها المدافع عن الغرب ضد تركيا المنبعثة من جديد، المعذبة بعداء أشد حكام الغرب بأساً، فقد عاق صراع العالم المسيحي مع العالم الإسلامي وشوشه ذلك النزاع القديم بين الهابسبورج وفرنسا. وزادت المجر المشكلة تعقيداً، لأن ثلثها