للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفصل الثالث

[ما كان يحدث في إيطاليا]

كانت الدولة الرومانية الغربية في أواخر القرن الرابع تطالعنا بصورة معقدة مركبة من الانتعاش والاضمحلال، ومن النشاط والعقم الأدبي، ومن الأبهة السياسية والانحلال العسكري. وكانت غالة في هذه الأثناء تزدهر ويعمها الرخاء، وتنازع إيطاليا في جميع الميادين؛ فقد كان عدد الغاليين في الإمبراطورية عشرين مليوناً أو يزيدون من سكانها الذين يقربون من سبعين مليوناً، في حين أن الإيطاليين لا يكادون يبلغون ستة ملايين (١٥)؛ وأما من عدا هؤلاء وأولئك فكانت كثرتهم من الشرقيين الذين يتكلمون اللغة اليونانية. وقد استحالت روما نفسها منذ بداية القرن الثاني بعد الميلاد مدينة شرقية من الأجناس التي تسكنها. لقد كانت روما من قبل تعتمد في حياتها على الشرق كما كانت أوربا الحديثة تعتمد في حياتها على فتوحها ومستعمراتها إلى أواسط القرن العشرين، وكانت الفيالق الرومانية تستحوذ على غلات ولاياتها التي تزيد على عشرة، وتنتزع منها معادنها الثمينة التي كانت تنساب في قصور الظافرين وخزائنهم. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد انقضى عهد الفتوح وبدأ عهد التقهقر والتراجع، واضطرت إيطاليا إلى الاعتماد على مواردها البشرية والمادية التي اضمحلت اضمحلالاً ينذر بأشد الأخطار من جراء تحديد النسل، والقحط والوباء، والضرائب الفادحة، والإتلاف والحرب. ولم تزدهر الصناعة يوماً ما في شبه الجزيرة الصقلية؛ ولآن وقد أخذت تفقد أسواقها في الشرق وفي غالة، لم يعد في وسعها أن تعول سكان المدن الذين كانوا يحصلون على الكفاف من العيش بالكدح في الحوانيت وفي البيوت. وكانت الكجلييا Cellegia أو نقابات أصحاب الحرف تعاني الأمرين