لقد مررنا مسرعين على نحو لم نكن نودُّه، خلال أربع آلاف عام من أعوام التاريخ، فمررنا بذلك على أغنى الحضارات التي شهدتها أكبر القارات؛ ويستحيل أن نكون قد فهمنا هذه الحضارات أو أن نكون قد وفيناها حقها العادل؛ إذ كيف يستطيع عقل واحد في حياة واحدة أن يستوعب أو يقدر تراث جنس بأسره؟ إن النظم الاجتماعية والعادات والفنون والأخلاق عند شعب من الشعوب تصور عملية الانتخاب الطبيعي الذي تقوم به تجارب لا حصر لعددها، يظل فيها ذلك الشعب يخطئ لكي يهتدي بالخطأ إلى الصواب، كما تصور حكمة الأجيال التي تعاقبت في ذلك الشعب، فتكدست تراثاً غزيراً حتى بات من العسير صياغتها في عبارات تضم أطرافها؛ فلا الفيلسوف بذكائه ولا الطالب الصغير بعقله يستطيع أن يحيط بمثل ذلك التراث إحاطة الفاهم لأسراره، دع عنك أن يحكم عليه حكماً عادلاً؛ إن أوربا وأمريكا هما طفل مدلل وحفيد أنجبتاهما آسيا، ولم يُقَدَّر لهما قط أن يتبينا غزارة الثروة التي جاءتهما قبل بداية تاريخهما القديم، لكننا إذا عمدنا الآن إلى تلخيص تلك الفنون وأساليب العيش التي استمدها الغرب من الشرق، أو التي ظهرت لأول مرة في الشرق- حسب ما يدلنا علمنا المحدود المتداول- فسنجد أننا نرسم بذلك التلخيص- عن غير قصد منا- رسماً تخطيطياً لسير المدنية.
إن أول عوامل المدنية هو العمل- الزراعة والصناعة والنقل والتجارة؛