لم يَنْس نابليون تماما وهو حاكم مدني أنه كان قد نشأ في رحاب الجنرالية. لم يغب ذلك عنه أبداً، فقد ظلت عادات القيادة باقية فيه لكنها مقموعة مُثبطة إلاَّ في مجلس الدولة وفي الاعتراض أو المناقشات. لنسمعه يقول: منذ دخولي الحياة العامة (المقصود غير العسكرية) للمرّة الأولى كُنتُ معتاداً على ممارسة القيادة (إصدار الأوامر) فتكوين شخصيتي وقوّتها كانتا من النوع الذي يجعلني إذا ما أصبحت السلطة في يدي لا اعترف بأيِّ سيِّد إلاَّ ما هو نتيجة فكري ولا أي قانون إلاّ إذا كان من وضعي أو بتعبير آخر إلا إذا كان منبثقا من قناعتي لقد رأيناه في سنة ١٨٠٠ يؤكد على الصيغة المدنية (غير العسكرية) لحكمه - عندما كان الجنرالات يتآمرون عليه لعزله،
لكن في سنة ١٨١٦ دافع عن وجهة النظر التي مؤدّاها أنه في خاتمة المطاف، فإن التحليل الصحيح يعني أنه إن أردت أن تحكم فمن الضروري أن تكون رجلاً عسكرياً، فالمرء لا يمكن أن يحكم إلاّ ملوحاً بغنيمة ومستخدماً مهمازاً لذا فإنه بنظرته الثاقبة لُمِثُل الشعب الفرنسي ما ظهر منها وما بطن، ما هو سَوِي منها وما متناقض - أعلن أنه رجل السلام وعبقري الحرب. ومن هنا فإن الديمقراطية النسبية التي شهدها عهد القنصلية ذابت في ظل النظام الملكي في عهد الإمبراطورية، ثم ذابت أخيراً .. في عهد السلطة المطلقة. لقد كان مصير مدونات نابليون القانونية - فيما يتعلق بقانون العقوبات (١٨١٠) - أن أصبحت قاسية مثّلت في قسوتها أساليب العقاب البربرية في العصور الوسطى.
ومع هذا فقد ظل نابليون متألقاً ذكياً في أمور الحكم كما كان في أمور المعارك. ولقد تنبأ نابليون أن إنجازاته في أمور الإدارة ستبزّ انتصاراته العسكرية وستكون أكثر خلوداً في التاريخ، وأن مدوّنته القانونية ستكون أثراً أكثر خلوداً من إستراتيجية وتكتيكة (التي لم تصبح ذات صلة بالحروب الجارية). لقد كان نابليون يرنو لأن يكون جستنيان Justinian عصره بالإضافة إلى كونه قيصره Caesar.
ولم يقض نابليون في باريس سوى ٩٥٥ يوماً من إجمالي أيامه التي كان فيها إمبراطوراً، والبالغة ٣٦٨٠ يوماً (١٨٠٤ - ١٨١٤)، ومع هذا فقد أعاد صياغة فرنسا في هذه الأيام البالغة ٩٥٥ يوماً، ففي هذه الأيام كان قبل ١٨٠٨ يرأس بانتظام مرتان في الأسبوع -