كان شيشرون يفخر بخطبه ويدرك أن هذه الخطب تهيئ السبيل إلى الأدب الروماني، ولذلك أحس بوقع انتقادات المدرسة الأتيكية، فلم يعه إلا أن يدافع عن نفسه، فكتب عدة رسائل طويلة في فن الخطابة، وقد لخص في بعضها تاريخ البلاغة الرومانية في حوار واضح بارع وضع فيه القواعد التي يجب اتباعها في تأليف الخطب وفي الإيقاع والإلقاء. ولم يسلم في هذه الرسائل بأن أسلوبه "أسيوي"، وقال إنه قد حذا فيه حذو دمستين Demosthenes واتهم "الأتيكيين" بأن خطبهم الفاترة الخالية من العواطف تنيم السامعين أو تجعلهم يفرون منهم.
وتوضح السبع والخمسون التي وصلت إلينا من خطب شيشرون جميع الحيل التي يلجأ إليها من خطب الخطباء الناجحون. فهي توفي على الغاية في عرض ناحية واحدة من نواحي الموضوع الذي يتحدث عنه الخطيب عرضاً يفيض حرارة وحماسة؛ وفي إدخال السرور على المستمعين بالفكاهات والنوادر؛ وفي إثارة كبريائهم وأهوائهم، وعواطفهم، ووطنيتهم، وتقواهم؛ وفي عرض أخطاء المعارض له أو أخطاء مولاه سواء كانت صحيحة أو مما يرويها الناس عنه، وسواء كانت تمس الشؤون العامة أو تمسه هو نفسه؛ ويحذقه في تحويل انتباه السامعين من النقط التي في غير صالحه، وغمرهم بفيض من الأسئلة الخطابية يضعها بحيث تكون الإجابة عنها صعبة أو مؤذية، ثم يكيل التهم في جمل تكون عباراتها قوية قوة السياط، وتيارها الجارف يغمر المستمعين؛ ولا تدعى هذه الخطب أنها عادلة منصفة بل إن فيها من التجريح أكثر مما فيها من التصريح، وهي خلاصات يستغل من