يلقيها حرية القذف التي كانت محرمة في المسارح، ولكنها مباحة في السوق العامة وفي ساحات القضاء. ولا يتردد شيشرون في أن يصف ضحاياه بألفاظ مثل "الخنزير" و"الوباء" و"الجزار" و"القذارة"؛ ويقول لبيزو Piso إن العذارى يقتلن أنفسهن ليتقين شر عُهره، ويصب اللعنات على أنطونيوس لأنه يظهر حبه لزوجته على ملأ الناس؛ وكانت هذه المثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في In Pisonem. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية"(٤٧).
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان