إن من العسير أن نحب فلورنس كما كانت في العصور الوسطى (١). ذلك أنها كانت وقتئذ نكدة صارمة في الصناعة والسياسة، ولكننا لا يصعب علينا مع ذلك أن نعجب بها. لكنها خصصت ثروتها لخلق الجمال. ففيها أيام شباب بترارك كانت النهضة في أوج مجدها.
فقد علا شأنها فيما كان يكتنفها من جو حافز ملئ بالتنافس المالي والتجاري، والنزاع العائلي، والعنف الفردي، لم يكن لشيء منها مثيل في سائر أنحاء أوربا. لقد كان أهل المدينة منقسمين على أنفسهم تفرق بينهم حرب الطوائف، وكانت كل طائفة فيها منقسمة هي الأخرى إلى أحزاب لا ترحم إذا كتب لها النصر، ولا تسكت عن الانتقام اذا منيت بالهزيمة، وكان انتقال بعض الأسر من حزب إلى حزب في أي وقت مت الأوقات يخل بتوازن القوي بينهما، وكثيراً ما كان يحدث في أي لحظة أن تنتظر السلاح بعض العناصر المتذمرة، وتحاول إسقاط الحكومة، فإذا أفلحت نفت زعماء الحزب المغلوب من المدينة، وصادرت في العادة أملاكهم، وحرقت بيوتهم أحياناً. على أن هذا النزاع الاقتصادي وذاك الاضطراب السياسي لم يكونا كل ما في فلورنس من حياة، ذلك أن اهلها كانوا ذوي شعور وطني قوي يعتزون به وإن كانوا أكثر إخلاصاً لحزبهم منهم لمدينتهم، وكانوا ينفقون كثيراً من مالهم في سبيل المصلحة العامة. وكان الموروثون من الأفراد ينفقون من اموالهم على رصف الشوارع وإنشاء
(١) يستعمل لفظ العصور الوسطى في هذه المجلدات للدلالة على تاريخ أوربا وحضارتها بين عامي ٣٢٥و١٤٩٢ بعد الميلاد-أي بين قسطنطين وكولمبس.