المثالية تضايق الحواس، والمادية تكدر النفس، لأن أولاهما تفسر كل شيء ما عدا العالم، والأخرى تفسر كل شيء ما عدا الحياة، وإذا أريد مزج هذين النصفين من أنصاف الحقائق فلا بد من العثور على مبدأ محرك دافع يتوسط بين التركيب والنماء، وبين الأشياء والأفكار، وقد حاول أنكساغوراس أن يبحث عن هذا المبدأ في العقل الكوني، وحاول أنبادوقليس أن يبحث عنه في القوى الكامنة التي تنزع إلى الثورة والانقلاب.
وكان مولد هذا الأكرغامي الشبيه بليوناردو Leonarda في عام مرثون، من أسرة غنية كانت مولعة بسباق الخيل ولعاً لم يكن يرجى معه أن ينبغ أحد أبنائها في الفلسفة. وقد درس بعض الوقت مع الفيثاغوريين، فلما نضج عقله أخذ يفشي بعض عقائدهم السرية فطرد من زمرتهم (٥٤). وأولع أشد الولع بعقيدة تناسخ الأرواح، وأعلن بخيال الشعراء وعواطفهم أنه كان "في سالف الأيام شاباً، وفتاة، وغصناً مزهراً، وطائراً، وسمكة تسبح صامتة في البحر العميق"(٥٥). وذم أكل الطعام الحيواني ووصفه بأنه لا يخرج عن أن يكون صورة من أكل اللحوم البشرية، أليست هذه الحيوانات تجسيداً جديداً لبعض الآدميين (٥٦)؟ وكان يعتقد أن الناس جميعاً كانوا من قبل آلهة، ولكنهم خسروا مكانهم في السماء لارتكابهم شيئاً من الدنس أو العنف. ويقول إنه واثق بأنه يشعر في قرارة نفسه بما يوحي إليه بألوهيته قبل مولده. "وأي مجد عظيم وأية سعادة ليس فوقها سعادة قد تدهورت منهما الآن، وأصبحت أطوف الأرض مع