الآدميين! " (٥٧). وإذ كان واثقاً من هذا الأصل الإلهي فقد احتذى حذاءين من الذهب، ولبس ثوبين أرجوانيين، ووضع على رأسه إكليلاً من الغار، وقال لأبناء وطنه متواضعاً إنه محبوب أبلو، ولم يعترف لغير أصدقائه بأنه إله. وادعى أن لها قوى فوق قوى البشر، ومارس بعض طقوس السحر، وحاول بطريق العزائم والرقى أن ينتزع من العالم الآخر أسرار مصير الإنسانية. وعرض على الناس أن يشفي مرضاهم بسحر الألفاظ، وشفى كثيرين منهم حتى كاد الناس يصدقون دعواه. أما الحق فإنه كان طبيباً نطاسياً ذا آراء كثيرة في علم الطب، ومتمكناً من سيكولوجية الفن، وكان فوق ذلك خطيباً مصقعاً، "اخترع" كما يقول أرسطاطاليس، أصول البلاغة وعلمها غورغياس، فعرضها هذا للبيع في أثينة، وكان مهندساً أنجى سلينس من الوباء بتجفيف المستنقعات وتحويل مجاري الأنهار (٥٩). وكان سياسياً شجاعاً تزعم، وهو أرستقراطي الأصل، ثورة على الأرستقراطية الضيقة، وأبى أن يكون حاكماً بأمره، وأقام حكماً ديمقراطياً معتدلاً. وكان شاعراً كتب في الطبيعة وفي التطهير شعراً بديعاً اضطر أرسطاطاليس وشيشرون إلى أن يضعاه في مصاف الشعراء المجيدين، وأظهر لكريشيوس إعجابه به بمحاكاته. وقال فيه ديوجين ليرتيوس: "وإذا ذهب إلى الألعاب الأولمبية استلفت جميع الأنظار، حتى لم يكن يذكر إنسان آخر بمثل ما يذكر به هو" (٦١)، ولعله كان كما يقول إلهاً.
ولم يبق لنا من أشعاره إلا ٤٧٠ بيتاً لا نجد فيها إلا إشارات متقطعة لفلسفته، فنرى منها أنه كان يختار مبادئه من فلسفات مختلفة، ويرى في كل طريقة من طرائقها شيئاً من الحكمة، ولا يوافق بارمنيدس على رفض جميع ما يجيء إلينا من المعلومات عن طريق الحواس، بل يثني على كل حاسة ويرى أنها "طريقاً موصلاً للإدراك" (٦٣). وعنده أن الحس ينشأ من انبعاث جزيئات تنتقل من الجسم الخارجي، وتقع على "مسام" (Poroi) الحواس،