والعلوم والفلسفة، من روائع لا يكاد يصدقها العقل. ولسنا ننكر أن جزءاً كبيراً من عامة الشعب كان يؤمن بالخرافات، والأوهام، والمعتقدات الخفية الغامضة، والأساطير، ويتعشقها كما يؤمن بها الناس ويتعشقونها على الدوام. ولكن الحياة اليونانية قد أضحت على الرغم من هذا حياة دنيوية إلى حد لم يسبق له مثيل في التاريخ، وانفصلت السياسة، والشرائع، والآداب، والبحوث، واحدة بعد واحدة من السلطة الدينية، وتحررت من سلطانها، وبدأت الفلسفة تفسر العالم والإنسان، جسمه وروحه، تفسيراً مستنداً إلى أسس طبيعية؛ ووضع العلم، الذي يكد يكون له من قبل (١) وجود. وقوانينه الأولى الجريئة، فوضعت قواعد الهندسة الإقليدية، وأضحى وضوح التفكير وتنظيمه، وصدقه، المثل الأعلى الذي تنشده أقلية من الرجال هي التي أخرجت العالم من ظلمات الجهل إلى نور العلم. وبذلت جهود جسمية وروحية جبارة للمحافظة على هذه المثل وما تبعثه من آمال، وإنقاذها من أيدي الاستبداد الأجنبي المميت، ومن الضياع في دياجير الغموض والتصوف القديم، فكسبت للحضارة الأوربية ما تستمتع به من ميزة الحرية التي كلفتها الشيء الكثير.
(١) لعل المؤلف قد نسى ما قاله من قبل عن علوم الأمم القديمة كالمصريين والبابليين أو لعل في قوله "لم يكد" إشارة إلى هذه العلوم. (المترجم).