حين نسمع بعد ذلك أنه كان والياً على شمال إيطاليا. وكان بحكم إقامته في ميلان وثيق الصلة بإمبراطور الغرب، وقد وجد في الإمبراطور الخلال الرومانية القديمة: العقل الراجح، والقدرة على التنفيذ، والشجاعة الهادئة. ولما علم أن الأحزاب المتنازعة قد اجتمعت في الكنيسة لتختار أسقفاً جديداً، أسرع إلى مكان الاجتماع وقمع بهيبته وقوة عبارته بوادر الفتنة بين المجتمعين، ولما عجزت الأحزاب المتنازعة عن الاتفاق على رجل يختارونه لهذا المنصب الديني، اقترح بعضهم أمبروز، وما كاد يُسمع اسمه حتى اجتمعت كلمة الحاضرين في حماسة منقطعة النظير، وأخِذ الحاكم من فوره رغم احتجاجه فعُمد، لأنه لم يكن قد عمد بعد، ورسم شماساً، ثم قساً، ثم أسقفاً، وتم ذلك كله في أسبوع واحد (٤٧٤)(٢٥).
وشغل الرجل منصبه الجديد، بالهيبة والمقدرة الخليقتين بالحاكم القدير، وبادر بالتخلي عن زخرف المنصب السياسي، وعاش عيشة تعد مضرب المثل في البساطة، فوزع أمواله وأملاكه على الفقراء، وباع الآنية المقدسة في كنيسة ليفتدي بثمنها أسرى الحرب (٢٦). وكان عالماً متفقهاً في الدين دافع بكل قوة عن المبادئ التي أقرها مجمع نيقية، وكان خطيباً مفوهاً لمواعظه الفضل في هدى أوغسطين، وشاعراً ألف عدداً من أقدم ترانيم الكنيسة وأنبلها، وقاضياً فضح بعلمه واستقامته مفاسد المحاكم المدنية، وسياسياً تعهد إليه الكنيسة والدولة بأشق المهام وأعظمها خطراً، ومنظماً دقيقاً كان سنداً قويّاً للبابا وإن كان قد غطى عليه وحجبه، وعالماً دينياً أرغم ثيودسيوس العظيم على التوبة، وكانت له السيطرة على خطط فلنتنيان الثالث. وكان سبب هذه السيطرة أن كانت للإمبراطور الشاب أم أريوسية العقيدة تدعى جيستنيا Justina حاولت أن تحصل على كنيسة في ميلان لقس أريوسي. ولكن المصلين من أتباع أمبروز ظلوا في الكنيسة المحاصرة ليلاً ونهاراً معتصمين فيها، اعتصاماً مقدساً يتحدون أمر الإمبراطور بتسليم البناء "ومن ثم" كما يقول أغسطين "نشأت عادة إنشاد الترانيم والأغاني، تقليداً لعادات الولايات الشرقية