في نفسه ميلاً للشئون السياسية؛ ولهذا فإنه حين أتم السنة التي يحق له فيها أن يتولى منصبه، وأيقن، كما يبدو من أحوال إيطاليا، ومما كان يردده الناس على الدوام، أن آخرة العالم قد اقتربت (٩)، أنفق معظم ثروته في إنشاء سبعة أديرة، ووزع ما بقي منها صدقات للفقراء، وتخلى عن جميع مظاهر طبقته، وحول قصره إلى دير للقديس أندر St. Andrew وصار أول راهب فيه، وأخذ نفسه بأشد أنواع الزهد صرامة، ولم يطعم في معظم أيامه إلا الخضر والفاكهة، وأكثر من الصيام إلى حد أنه لما أقبل يوم سبت النور الذي يحتم فيه الصيام خيل إلى من يراه أن صوم يوم واحد بعده سيقضي عليه لا محالة. غير أنه كان يذكر بالخير الثلاث سنين التي قضاها في الدير ويقول إنها أسعد سني حياته.
ثم انتزع من هذا الهدوء ليكون "شماساً سابعاً" في خدمة البابا بندكت الأول، ثم أرسله البابا بلاجيوس Pelagius الثاني سفيراً له في البلاط الإمبراطوري بالقسطنطينية. وظل بين ألاعيب السياسة وأبهة القصور يعيش معيشة الراهب في عاداته، وطعامه وصلواته (١٠)، وإن كان مع ذلك قد خبر العالم وما فيه من مكر وخداع خبرة أفاد منها كثيراً. واستدعى مرة أخرى إلى روما عام ٥٨٦ وعين رئيساً لدير القديس أندرو، ثم فشا في عام ٥٩٠ طاعون دملي مروع قضى على عدد كبير من أهل روما وكان بلاجيوس من ضحاياه، وبادر رجال الدين والشعب إلى اختيار جريجوري ليخلفه؛ وكان يعز على جريجوري أن يترك ديره فكتب إلى إمبراطور الروم يرجوه ألا يوافق على اختياره للمنصب الجديد، ولكن عمدة المدينة احتجز الرسالة، وبينما كان جريجوري يعد العدة للهرب، ألقي القبض عليه، وحمل بالقوة إلى كنيسة القديس بطرس حيث أقام جريجوري آخر، أو هكذا يقولون، بابا (١١).
وكان وقتئذ في الخمسين من عمره وقد دب الصلع في رأسه في هذه السن المبكرة وكان كبير الرأس أسمر اللون، أقني الأنف، خفيف شعر اللحية، أصدأه، قوي