ساءه أن يرى عكا غاصة بالخنازير والصلبان، تفوح منها رائحة الأوربيين الكريهة، ولكنه يأمل أن يتحضر المسيحيون بالحضارة التي وفدوا إليها ولاتي هي أرقى من حضارتهم (٢٩).
وظلت مملكة أورشليم اللاتينية في سني السلم الأربعين التي أعقبت الحملة الصليبية الثانية تمزقها المنازعات الداخلية، على حين أن أعداءها المسلمين كانوا يسيرون بخطى حثيثة نحو الوحدة. فقد مد نور الدين سلطانه من حلب إلى دمشق (١١٧٥)، ولما مات أخضع صلاح الدين لسلطانه مصر وسوريا الإسلامية (١١٧٥)؛ ونشر تجار جنوى، والبندقية، وبيزا الاضطراب في الثغور الشرقية بمنافساتهم القاتلة. وفي أورشليم أخذ الفرسان يتنازعون للاستيلاء على العرش. ولما استطاع جاي ده لوزينان أن يشق إليه طريقه بالختل (١١٨٦)، استاءت لذلك طبقة الأشراف، حتى قال أخوه جوفري:"إن يكن جاي هذا ملكاً فأنا خليق بأن أكون إلهاً". ونصب ريجلند أمير شاتيون Reginald of Chatillon نفسه أميراً مستقلاً في قلعة الكرك العظيمة وراء نهر الأردن، على حدود بلاد العرب، وكثيراً ما خرق اتفاق الهدنة المعقود بين الملك اللاتيني وصلاح الدين، وأعلن عزمه على أن يغزو بلاد العرب، ويهدم قبر النبي في المدينة، ويدك أبنية الكعبة في مكة (٣٠). وأبحرت قوته الصغيرة المؤلفة من الفرسان المغامرين في البحر الأحمر، واتجهت نحو المدينة؛ ولكن سرية مصرية باغتتها، وقتلتها عن آخرها إلا عدداً قليلاً فروا مع ريجنلد، وبعض الأسرى الذين سيقوا إلى مكة، وذبحوا في يوم عيد النحر (١١٨٣).
وكان صلاح الدين في هذه الأثناء قد قنع بشن الغارات الصغيرة على فلسطين؛ فلما رأى ما فعله ريجلند ثارت حميته الدينية، فأخذ ينظم من جديد جيشه الذي فتح به دمشق، والتقى بقوات المملكة اللاتينية في معركة غير حاسمة عند مرج ابن عامر ذي الشهرة التاريخية (١١٨٣)، ثم هاجم ريجلند عند