الإيمان لغارات العقل. وبعد عشر سنوات من الدرس والكتابة أصدر مالبرانش في أربعة مجلدات (١٦٧٤) تحفة من روائع الفلسفة الفرنسية تحت عنوان "البحث عن الحقيقة". وهنا، كما هو الحال في كل فلاسفة فرنسا، كان وضوح الالتزام الخلقي وإدراكه أمراً مقبولاً، وأصبحت الفلسفة أدباً.
ولم يكن ديكارت قد بدأ دراساته المضنية عن النفس فحسب، بل كان قد وضع مثل هذه اللهو بين الجسم مادياً وميكانيكياً وبين العقل روحياً وحراً، بحيث لا يمكن تصور أي تفاعل بينهما. ومع ذلك بدا هذا التفاعل أمراً لا نزاع فيه: إن فكرة قد تحرك ذراعاً أو جيشاً، مخدراً قد يشوش الذهن. وكان نصف حيرة خلفاء ديكارت في عبور الهوة بين الجسم والفكر.
إن فيلسوفاً فلمنكياً هو أرنولد جيلنكس مهد الطريق أما مالبرانش-وسبينوزا وليبنتز-بإنكاره التفاعل. إن الجسم المادي لا يؤثر في العقل غير المادي، والعكس بالعكس، وإذا بدا أن أحدهما يؤثر في الآخر، فما ذلك غلا لأن الله قد خلق الحقيقة في مجريين متميزين للأحداث، أحدهما مادي والآخر عقلي، وتزامنهما أشبه بتزامن ساعتي حائط على نفس الوقت والسرعة، تدقان نفس الساعات في وقت واحد، ولكنهما الواحدة منهما مستقلة عن الأخرى، اللهم إلا أن كلتيهما من مصدر واحد-الذكاء الذي وضعهما وبدأهما. ومن ثم يكون الله هو المصدر الوحيد لكل من سلسلتي الأسباب والنتائج المادية والعقلية. والحالة العقلية هي الفرصة المناسبة، لا السبب، للحركة المادية الناشئة ظاهرياً، والحركة المادية-عملاً أو إحساساً-هي مجرد فرصة للحالة العقلية التي تبدو أنها تسببها، والله، في كل حالة، هو وحده العلة أو السبب (١). وعند هذه النقطة نقض جلينكس، الذي
(١) أن التنقيح الذي أدخله سبينوزا على "نظرية التوازي في علم النفس البدني" قد يساعدنا على فهم جيلنكس. أن الله أو الطبيعة تعمل في ناحيتين أو مجريين متزامنين: التعاقبات المادية للعالم الموضوعي، بما في ذلك أجسامنا، والتعاقبات العقلية للعالم الذاتي، بما في ذلك مشاعرنا وأفكارنا ورغباتنا. ولا يسبب أحد هذين المجريين المجرى الآخر، لأن كليهما مجرد جانبين-الخارجي والداخلي-لعملية واحدة-وجرى واحد مزدوج للأحداث.