أن مارشال دي لكسمبورج نصحه إذ ذاك أن يهدي إلى الملك لويس كتاباً مؤكداً له سيلقي من الملك استجابة تتسم بالتحرر (٥٣). ولم يؤد الاقتراح إلى نتيجة. وعاد سبينوزا أدراجه إلى لاهاي ليجد كثيراً من المواطنين يشتبهون في أنه خائن. وتجمع حشد معاد حول بيته يكيلون السباب ويقذفون الأحجار. وقال لصاحب البيت "لا تنزعج، فأنا برئ، وهناك كثيرون من ذوي المناصب العالية يعرفون لماذا ذهبت إلى أوترخت. وحالما تسمع أي صخب أو شغب عند الباب، فسأخرج أنا إلى الناس حتى ولو كانوا سيفعلون بي مثل ما فعلوا بجان دي ويت الطيب. أنا جمهوري مخلص أمين، وهدفي خير الجمهورية (٥٤) ولم يدعه صاحب الدار يخرج. وتفرق الجمهور.
وكان سبينوزا آنذاك في الحادية بعد الأربعين. وهناك في مسكن سبينوزا في لاهاي صورة تمثله نمطاً دقيقاً ليهودي سفردي، ذي شعر أسود متدل، وحاجبين كثيفين، وعينين سوداوين براقتين مكتئبتين قليلاً، وأنف مستطيل مستقيم، ووجه تغلب عليه الوسامة في جملته، إذا قورن فقط بالصورة التي رسمها هالس لديكارت. ويقول لوكاس: "كان أنيقاً غاية الأناقة في مظهره، ولم يغادر قط بيته دون أن يرتدي من الثياب ما يميز السيد المهذب الماجد عن المتحذلق (٥٥). واتسم سلوكه بالرزانة والوقار مع الظرف والرقة. وقال أولدنبرج "أن علمه الراسخ اقترن بالروح الإنسانية والدماثة (٥٦) ". وكتب بيل "أن كل الذين تعرفوا على سبينوزا يقولون بأنه كان اجتماعياً لطيف المعشر، أميناً، ودوداً حسن الخلق (٥٧) ". ولم يتحدث إلى جيرانه بأية هرطقة، بل على العكس شجعهم على الاستمرار في الذهاب إلى الكنيسة، ورافقهم من آن لآخر ليستمع إلى موعظة (٥٨). وكان أكثر من أي فيلسوف حديث آخر يتمتع بالهدوء الناجم عن ضبط النفس. وقلما رد على النقد، وتناول في رده الأفكار والآراء، لا الأمور الشخصية. وعلى الرغم من اعتناقه مذهب الجبرية، واقتلاعه من بين قومه، ومرضه، كان أبعد ما يكون عن التشاؤم، وقال "تصرف تصرفاً حسناً، وابتهج وقر عيناً (٥٩) " وربما كان شعار تفكيره أن يعرف أسوأ الأشياء، ويؤمن بأحسنها.
وتردد الأصدقاء والمعجبون به على داره. وأقنعه والترفون