وفي تلك اللحظة تذكر الباريسيون أخطاء الملك الراحل، وبدت لهم في وضح غطى على ما عداها. وأحسوا أن حبه للجاه والسلطان والعظمة قاد فرنسا إلى حافلة الخراب. وكرهوا غطرسته واعتداده بنفسه اللذين دمرا الحكم الذاتي المحلي، وركزا كل الحكم في إرادة واحدة لا يستطيع أحد أن يتحداها. ورثوا لملايين الفرنكات التي أنفقت وآلاف الأرواح التي أزهقت في تجميل فرساي، وصبوا اللعنات على إهمال الملك شأن عاصمته المشاغبة المتمردة. وأبهجت فئة قليلة لأن اضطهاد الجانسنيين قد يتوقف بعد موته، على أن أغلبية كبيرة ظلت تمتدح طرد الهيجونوت. وفي استرجاع الأحداث الماضية والتأمل فيها، كان واضحاً أن غزو هولندا في ١٦٧٢، وغزو ألمانيا ١٦٨٨، والتسرع في الاستيلاء على مدن الحدود في ١٧٠١، كانت كلها أخطاء جسيمة جلبت على فرنسا عداوة الكثيرين من كل جانب. ولكن كم من الفرنسيين كانوا قد استنكروا هذه الفتوحات، ونطقوا بكلمة حق في اجتياح البالاتينات؟ لقد كانت الأمة آثمة مدانة قدر إثم مليكها وإدانته، أنها لم تأخذ عليه جرائمه بل هزائمه. أنها، باستثناء بعض القساوسة، لم تشجب فسقه وفجوره وزناه. ولم تظهر تحمساً لإصلاحه الخلقي، أو تقواه أو إخلاصه لزوجته غير المتكافئة معه، ونسيت الآن أنه كان لعدة سنين قد زين سلطانه من اللطف والكياسة والإنسانية (١٠٠). وأنه إلى أن ركبه شيطان الحرب، كان يؤيد كولبير في تنمية الصناعة والتجارة في فرنسا، وأنه كان قد حمى موليير من المتعصبين، وراسين من عصابات المتآمرين، وأن إسرافه في الإنفاق لم يكن لحساب ترفه وبذخه فحسب، بل أنه كذلك هيأ به لفرنسا تراثاً ضخماً من الفن.
أن ما اختلج في أعماق الشعب بشكل أوقع وأعدل، هو ما كانوا قد دفعوه من دمائهم وأموالهم، ثمناً لمجد تقوضت أركانه بموت الملك وإفقار فرنسا وخرابها. فندر أن وجدت في الأمة أسرة لم تفقد أحد أبنائها في الحروب، ونقص عدد السكان إلى حد باتت معه الحكومة تقدم جوائز للوالدين الذين لديهم عشرة أبناء. وكانت الضرائب قد خنقت الحافز الاقتصادي، كما سدت الحرب منافذ التجارة، وأغلقت الأسواق الأجنبية في وجه البضائع الفرنسية، ولك تكن الدولة مفلسة فحسب، بل كانت كذلك مدينة بنحو ثلاثة آلاف مليون من الفرنكات (١٠١). وضاع ما كان للنبلاء من نفع وأثر، حين انصرفوا عن الإدارة المحلية إلى التسكع في أروقة البلاط، ولم يتألقوا إلا في ملابسهم الثمينة وبسالتهم العسكرية. وظهرت طبقة جديدة من النبلاء