ذلك أن قواعد الأدب واللياقة التي شكلت أخلاق الصينيين ونظامهم الاجتماعي أضحت قوة جارفة تسير كل حركة حيوية في طريق مرسوم لا تتحول عنه، وكانت الفلسفة الكنفوشية تصطبغ بصبغة جامدة متزمتة، وتقف في سبيل الدوافع الطبيعية القوية المحركة للجنس البشري، وسمت فضائلها حتى بلغت حد العقم؛ ولم يكن فيها قط مجال للهو والمجازفة كما لم يكن فيها إلا القليل من الصداقة والحب، وقد أعانت على تحقير النساء وإذلالهن (١٤٥)، كما أعان ما فيها من كمال بارد على تجميد الأمة الصينية وجعلها أمة متحفظة لا يضارع عداءها للرقي إلا حبها للسلام.
وليس من حقنا أن نعزو هذا كله إلى كنفوشيوس، وأن نوجه إليه اللوم من أجله، إذ ليس في مقدور إنسان أياً كان شأنه أن يسيطر على تفكير عشرين قرناً من الزمان. بل كل ما يحق لنا أن نطلبه إلى المفكر أن يضيء لنا بطريقة ما، وبفضل تفكيره طوال حياته، سبيل الفهم الصحيح. وقَلَّ أن تجد في العالم من اضطلع بهذا الواجب كما اضطلع به كنفوشيوس. وإذا ما قرأنا تعاليمه، وتبينا ما يجب أن نمحوه من فلسفته بسبب تقدم المعارف في العالم وتبدل أحواله، وعرفنا قيمة ما يسديه إلينا من هداية في عالمنا الحاضر نفسه، إذا فعلنا هذا نسينا من فورنا ما يشوب فلسفته من تفاهة تارة ومن كمال لا تطيقه الطبيعة البشرية تارة أخرى، واشتركنا مع كونج جي حفيده الصالح التقي في هذا التسبيح الأعلى الذي كان بداية تأليه كنفوشيوس.
لقد نقل جونج- في عقائد يُو وشوِن كأنهما كانا من آبائه، ونشر نظم وُن ووُو واتخذهما مثلين يحتذيهما وينسج على منوالهما. وكان في صفاته الروحية قديساً أو ملاكاً يتناغم مع السماء، ولكنه لم ينس قط أنه مخلوق من طين وماء. وهو يشبه السماء والأرض في أنه كان عماداً لكل شيء وعائلاً لكل شيء، يحجب نوره كل شيء، وتغطي ظلاله كل شيء. وهو أشبه بالفصول الأربعة في تتابعها وانتظام سيرها، وأشبه بالشمس والقمر في تتابع ضيائهما ..