أخذوا عليه إنه ضيع نفسه بتهور شديد في التعميمات، مضحياً أحياناً بدقة التفاصيل. وضحك فولتير على تقبله فكرة التوالد الذاتي، واحتقر لينيوس مؤلفه في النباتات، ولم يحترم ريامور دراسته للنحل، واستخف علماء الحيوان بتصنيفه الحيوانات نفعها للإنسان. ولكن الناس جميعاً صفقوا لأسلوبه. ذلك أن بوفون ينتمي للأدب كما ينتمي للعلم، ولا يستطيع إنصافه إلا التاريخ المتكامل. فندر من العلماء من أفصح عن نفسه بمثل هذه البلاغة الرائعة. وقد قال فيه روسو، وهو أحد أساتذة الأساليب، "إنني لا أعرف له ضريباً في عالم الكتابة. فقلمه أول قلم في قرنه"(١٠٦). وفي هذا اتفق جريم الحكيم مع روسو رغم عدائه له. "يحق للمرء أن يدهش لقراءة أحاديث قد يبلغ الحديث منها مائة صفحة، كتبت دائماً من أول سطر إلى آخره، بأسلوب رفيع وحرارة مضطردة واحدة، وزينت بأروع تلون وأكثره طبيعية (١٠٧). لقد كتب بوفون كما يكتب رجل تحرر من أغلال العوز ووهب متسعاً من الوقت، فلم يكن في إنتاجه ما كتب على عجل كما نجد ذلك كثيراً في فولتير، وكان بألفاظه عنايته بعيناته. وغذ تبين في الأشياء قانون استمرارية لاينتسيا"، فقد أرسى نظرية في الأسلوب، فصقل كل الانتقالات، ورتب كل الأفكار في تسلسل جعل لغته تتدفق كأنها نهر عريض عميق. وبينما كل السر في أسلوب فولتير هو التعبير السريع الواضح عن الفكر الثاقب، كانت طريقة بوفون هي الترتيب المتأني لأفكار عريضة تنبض بالوجدان فلقد أحس بجلال الطبيعة وجعل من علمه أنشودة تسبيح.
وكان على وعي تام بنزعته الأدبية، يبهجه أن يقرأ لزواره فقرات عذبة من كتبه؛ وحين انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية لم يتخذ موضوعاً له يوم استقباله (٢٥ أغسطس ١٧٥٣) عجيبة من أعاجيب العلم، بل تحليلا للأسلوب. وحوى هذا الخطاب المشهور، كما قال كوفييه، "المبدأ والمثال جميعاً"(١٠٨)، لأنه هو نفسه كان درة من درر الأسلوب. وهو مخفي عن عين جميع الناس -إلا الفرنسيين- تحت أكداس مؤلفاته، ولم نكد نعرف منه غير حكمه الشهير، الجامع، الخفي المغزي، "الأسلوب هو الإنسان.