أقوى ناقد واجهه العقل، وربما باستثناء كانت. وأعترف فولتير من أن لآخر بحدود العقل. وأتفق ديدرو مع روسو في أن الوجدان أساسي أكثر من العقل. وأعترف كل فلاسفة القرن الثامن عشر تقريباً بأن غالبية الناس حتى في أعظم الأمم حضارة ومدينة مرهقون بالحاجيات الاقتصادية والكدح في سبيل العيش إلى درجة لا يجدون معها فسحة من الوقت لتنمية العقل، وأن جماهير البشر تتحرك وتتأثر بالأهواء والعواطف والحزازات أكثر من تأثرها بالعقل، ومع هذا ظل الأمل معقوداً على انتشار العقل وإمكان تحريره من الأنانية الضيقة والتعاليم المغرضة.
وهكذا برغم فترات التشاؤم التي مر بها الفلاسفة فقد سادت بينهم روح التفاؤل، ولم يكن الناس قط من قبل واثقين بقدرتهم، أن لم يكن على إعادة بناء أنفسهم، فعلى الأقل على إعادة بناء المجتمع. وبرغم كوارث السنين السبع، وفقدان كندا والهند واستيلاء إنجلترا عليهما، فقد سيطرت على ذهن فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حماسة وحيوية بدا أنهما ستعيدان إلى فرنسا العجوز المتوجعة قوتها وشبابها من جديد. ولم يحدث قط منذ أيام السفسطائيين الإغريق أن انتشرت مثل هذه الآراء والأفكار الكثيرة، أو أظهرت روح البحث والتحقيق والحوار والجدل المنعشة، فلا عجب أن يحس ديكلوس حوله "بشيء من اختمار العقل بميل إلى التطور والنمو في كل مكان"(٥) وبما أن باريس كانت آنذاك عاصمة الفكر في أوربا، فإن حركة التنوير أصبحت حركة واسعة النطاق مثل حركة النهضة الأوربية وحركة الإصلاح الديني، والحق أن حركة التنوير هذه بدت وكأنها ذروة الحركات السابقة. وكانت النهضة قد ذهبت إلى ما وراء المسيحية لتكتشف الذهن الوثني، كما أن الإصلاح الديني كان قد كسر قيود السيادة المذهبية، وعلى الرغم منه تقريباً أطلق العنان لعمل العقل، وباتت مقدمتا العصر الحديث هاتين تكمل الواحدة الأخرى، وأصبح الآن في مقدور الإنسان في نهاية المطاف أن يحرر نفسه من معتقدات العصور الوسطى ومن أساطير الشرق. كما يقف على قدميه حراً طليقاً. حراً في أن يشك؛ وفي أن يحقق ويدقق. حراً في أن يفكر