للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والسخرية منبوذاً في المجتمع، وطرد من دار مسيو برتان الثري الذي كان لعدة سنوات قد إعتمد عليه في تناول العشاء عنده، وصار عليه أن يلتمس الزملأ في مقهى "لا ريجانس" وفي أماكن أخرى تزخر بالأفكار التقدمية التي لا تغنى ولا تسمن من جوع. يقول ديدرو (لاحظ كيف يعكس حياته في كتبه): "فليكن الطقس معتدلاً أو غائماً معتماً، إن من عادتي أن أقصد سيراً على الأقدام في الساعة الخامسة بعد الظهر إلى البالية رويال. وأنا الشخص الذي يمكن أن يقع بصرك عليه وحيداً دائماً، حالماً على مقعد دارجنسون، أبحث بيني وبين نفسي مشاكل السياسة والحب والذوق والفلسفة. وأطلق لذهني العنان .... وإذا أشتد البرد أو هطل المطر، آوى إلى مقهى لا ريجانس، أراقب لعب الشطرنج … وكنت ذات مساء هناك، أتلفت إلى ما حولي، أتكلم قليلاً، وأسمع قليلاً بقدر الإمكان. حين دنا مني شخص من أغرب الأشخاص على الأرض" (٤١).

وتجيء بعد ذلك شخصية رائعة: رجل أخنى عليه الدهر، وهو يتذكر الخمرة في مرارة وكان فيما مضى كثير المال ناعم البال مع أجمل زوجة في باريس، وأستقبل مرة في دار أنيقة (٤٢)، كما كان متمشياً مع كل الوان الثقافة في فرنسا. ولكنه الآن يعاني الفقر والخزي والعار، يعيش على ما يقتات به من موائد الذين يستشعرون الأشفاق عليه، وعلى القروض المنسية، لا يرى في الحياة إلا الصراع والهزيمة، ينبذ كل الديانة بأعتبارها قرية جميلة ولكنها مرعبة، وينظر إلى الأخلاقيات على أنها جبن وخداع، ومع كل هذا يحتفظ بقدر كاف من ماضيه ليغلف تحرراً من الوهم فصاحة بارعة مهذبة، ويكسو هذا التحرير رداء عقلانياً. ودعابته حادة مريرة: من ذلك قوله "أت السيدة (كذا) وضعت توأماً، سيكون لكل والد واحد منهما" أو قوله عن أوبرا جديدة "أن فيها بعض قطع جميلة والمؤلم حقاً أن هذه القطع لم توضع لأول مرة" (٤٣). أن مأساته الكبرى هي أنه لا يؤمن بشيء "وسمع بعض كلام روسو عن الطبيعة -كم هي أفضل من المدنية