إنجازاً رائعاً من فتى في الثالثة والعشرين. وقد سبق كونت-وربما حذا حذو فيكو-فقسم تاريخ العقل البشري إلى ثلاث مراحل: مرحلة لاهوتية، وأخرى ميتافيزيقية، وثالثة علمية. قال: -
"قبل أن يفهم الناس العلاقة العلية بين الظواهر الطبيعية، كان طبيعياً جداً أن يفترضوا أنها صادرة عن كائنات عاقلة، غير مرئية، شبيهة بهم … فلما أدرك الفلاسفة سخف هذه الخرافات عن الأرباب دون أن يكتسبوا بعد بصراً بالتاريخ الطبيعي، حاولوا تفسير أسباب الظواهر بعبارات تجريدية مثل الظواهر والقوى. ولم توضع الفروض-التي أمكن تطويرها بالرياضيات وإثباتها بالتجربة؛ بملاحظة التفاعل الميكانيكي المتبادل للأجسام-إلا في فترة متأخرة"(٤٨).
وقال الشاب الألمعي إن الحيوانات لا تعرف التقدم، فهي تظل كما هي جيلاً بعد جيل، أما الإنسان فبفضل تعلمه تجميع المعرفة وتوصيلها يستطيع تحسين الأدوات التي يستخدمها في التعامل مع بيئته وفي إثراء حياته. مادام هذا التجميع والتوصيل للمعرفة والتكنولوجيا مستمراً فلا مندوحة عن التقدم وإن عطلته أحياناً الكوارث الطبيعية أو تقلبات الدول. وليس التقدم متماثلاً، ولا هو عام، فبعض الأمم يتقدم وبعضها يتقهقر، وقد يركد الفن في حين يتحرك العلم قدماً، ولكن الحركة في جملتها حركة إلى الأمام. وفضلاً عن هذه الآراء، تنبأ طورجو بالثورة الأمريكية فقال "إن المستعمرات أشبه بالفاكهة التي تتشبث بالشجرة إلى أن تنضج، وحين تغدو مستكفية بذاتها تفعل ما فعلته قرطاجة، وما ستفعله أمريكا يوماً ما (٤٩) ".
وقد خطط طورجو لكتابة تاريخ الحضارة وهو بعد الصوربون مستوحياً في ذلك فكرة التقدم. ولم يبقَ من مشروعه هذا سوى مذكرات خطها لبعض فصول الكتاب، ومنها يتبين أنه قص أن يضمنه تاريخ اللغة، والدين، والعلم، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، كما يضمنه قيام الدول وسقوطها (٥٠). فلما ورث عن أبيه دخلاً كافياً قرر أواخر عام ١٧٥٠ أن يترك الوظيفة الكنسية وألح عليه زميل من الآباء الدينيين في