الواقع فياضة بالحياة، وفي صحة سابغة، رغم شيخوختها (فقد عمرت إلى الثالثة والتسعين). ولم ألق قط، ولا تسببت في إلقاء على باب مستشفى ولا في أي مكان آخر … ولن أزيد .. اللهم إلا القول بأنني حين يحضرني الموت أؤثر أن أكون قد ارتكبت ما يتهمني به المؤلف، عن أن أكون كاتب كتيب كهذا .. (٦٢)"
ومع أن تسليم روسو أطفاله لملجأ للقطاء (لا إلقاءهم في العراء بالضبط) كان موضوعاً يعرفه المقربون في باريس (فقد اعترف به للمرشالة لكسمبورج)، فإن نشر فولتير كانت أول إفشاء علني لهذا السر. وخامر جان-جاك الظن في أن مدام ديينيه أفشته عند زيارتها لجنيف، واقتنع الآن بأنها هي وجريم وديدرو كانوا يأتمرون لتشويه سمعته. وقد هاجم جريم روسو في هذه الفترة غير مرة في "الرسائل الأدبية (٦٣)". وفي خطابه المؤرخ ١٥ يناير ١٧٦٥ في معرض الحديث عن "خطابات من الجبل" انظم إلى فولتير في اتهام روسو بالخيانة: "إن وجد في أي مكان على الأرض جريمة تدعى الخيانة العظمى، فهي ولا ريب في مهاجمة الدستور الأساسي لدولة بالأسلحة التي أستخدمها روسو ليطيح بدستور وطنه".
والشجار الطويل الذي نشب بين فولتير وروسو من أفجع اللطخ التي لوثت وجه حركة التنوير. لقد باعد بينهما مولدهما ومركزهما. ففولتير، ابن الموثق الموسر، تلقى تعليماً حسنناً، لا سيما في الدراسات القديمة؛ أما روسو المولود في أسرة فقيرة وشيكة التفكك، فلم يتلقَ أي تعليم نظامي، ولم يرث أي تقليد كلاسيكي، وقد قبل فولتير القواعد الأدبية التي وضعها بوالوا-"أحب العقل، ولتستقِ كل كتاباتك من العقل بهائها وقيمتها (٦٤)". أما في رأي روسو (كما في رأي فاوست وهو يغوي مارجريت بروسو) فإن "الوجدان كل شيء (٦٥) ". وكان فولتير لا يقل عن جان-جاك حساسية وسرعة انفعال، ولكنه عادة كان يرى من سوء الأدب أن يترك الانفعال يشوه فنه، وقد اشتم في دعوة روسو للوجدان والغريزة لا عقلية فوضوية فردية تبدأ بالثورة وتنتهي بالدين. وقد شجب فولتير بسكال، أما روسو