ساعته-أو المائدة أو المقعد وكأنها لوحة المفاتيح". (٣٩) وكان أحياناً يواصل هذا التأليف الصامت حتى وهو يبدو مصغياً لإحدى الأوبرات. وكان يحتفظ بقصاصات من ورق تدوين الموسيقى في جيوبه أو في جيب العربة الجانبي وهو مسافر، ثم يدون عليها نوتات متناثرة، وقد ألف أن يحمل علبة من الجلد تتلقى هذه الأشتات. فإذا تأهب لم يجلس إلى لوحة المفاتيح بل إلى المنضدة. وتقول كونستانتسي "كان يكتب الموسيقى كما يكتب الخطابات، ولم يحاول قط عزف حركة حتى تكتمل". أو قد يجلس إلى البيان ساعات بأكملها يرتجل ويترك خياله الموسيقي حراً طليقاً في الظاهر ولكنه في نصف وعي يخضعه لبناء متميز-كشكل الصوناتا، أو الآريا، أو الفوجة … وكان الموسيقيون يستمتعون بارتجالات موتسارت لأنهم كانوا يستطيعون أن يتبينوا في ابتهاج خفي النسق المتواري خلف أنغام تبدو عفوية في ظاهر الأمر. قال نيمتشك في شيخوخته "لو جرؤت على أن أصلي لفرحة أرضية أخرى لكانت أن أسمع موتسارت يرتجل" (٤٠).
وكان في استطاعة موتسارت أن يعزف أي موسيقى تقريباً بمجرد الإطلاع نوتتها لأن طول خبرته بارتباطات النوتات وتعاقبها المعينة أتاح له قراءتها كأنها نوتة واحدة، وكانت أنامله المدربة تعزفها كأنها جملة أو فكرة موسيقية واحدة، تماماً كما يستوعب القارئ المدرب سطراً كأنه كلمة، أو فقرة كأنها سطراً. واقترنت ذاكرة موتسارت بهذه القدرة على إدراك الكليات، والإحساس بالمنطق الذي يلزم الجزء بالدلالة على الكل. وفي السنوات اللاحقة كان يستطيع أن يعزف أياً من كنشرتواته تقريباً عن ظهر قلب. وفي براغ كتب أجزاء الطبلة والبوق للخاتمة الثانية في "دون جوفاني" دون أن تتاح له نوته الآلات الأخرى، وكان قد حفظ تلك الموسيقى المعقدة في ذاكرته. وذات مرة دون جزء الفويولينه فقط من صوناتا للبيانو والفيولينه، وفي الغد، ودون بروفا، عزفت رجينا سترينا زاكي جزء الفيواينه في حفلة، وعزف موتسارت جزء البيانو من مجرد ذكرى تصوره دون أن يتسع له الوقت لتدوينها على الورق (٤١). ولعل صحائف التاريخ لا تحوي ذكرى رجل آخر استغرقته الموسيقى إلى هذا الحد.