المصلى الراكع صوب المحراب الذي يشير في كل مسجد إلى قبلة مكة المكرمة. كذلك فضل الأتراك جوامعهم ذات القباب والقرميد والمآذن على أبراج الكاتدرائيات القوطية وعقودها وفخامتها الكابية. وشيدوا حتى في هذه الحقبة المضمحلة المساجد العظيمة في نوري- عثمانية (١٧٤٨) ولا ليلى- يامسي (١٧٦٥)، وحاكى أحمد الثالث طراز الحمراء في القصر الذي شيده في عام ١٧٢٩. أما الآستانة فلعلها كانت أروع العواصم الأوربية، كما كانت أوسعها رقعة برغم شوارعها المتشابكة وأحيائها الفقيرة الكثيرة الضجيج، وكان سكانها البالغون مليونين من الأنفس (١١) مثلى سكان لندن، وثلاثة أمثال سكان باريس، وثمانية أمثال سكان روما (١٢). وحين أطلت الليدي ماري على المدينة والميناء من قصر السفير البريطاني، خيل إليها أنهما "ربما يؤلفان معاً أبهى مشهد في العالم"(١٣).
على عرش هذه الإمبراطورية العثمانية، من الفرات إلى الأطلنطي، تربع سلاطين عصر الاضمحلال. ولقد نظرنا في موقع آخر من هذا الكتاب (١٤) في أسباب ذلك الاضمحلال: وهي انتقال تجارة غربي أوربا التي تقصد آسيا، إذ أصبحت تدور حول أفريقيا بحراً بدلاً من طريقها البري الذي كان يختر مصر أو غربي آسيا؛ وتخريب قنوات الري أو إهمالها؛ وتوسع الإمبراطورية وامتدادها إلى مسافات مترامية لا تتيح لها الحكم المركزي الفعال وما ترتب على ذلك من استقلال الباشوات ونزوع الولايات إلى الانفصال؛ وتدهورت الحكومة المركزية لتفشي الرشوة والعجز والكسل، وتمرد الانكشارية المرة تلو المرة على النظام الصارم الذي كان له الفضل فيما بلغوا من قسوة وتسلط القدرية والجمود على الحياة والفكر، وتراخي السلاطين الذين استطابوا خدور النساء وآثروها على ساحات الوغى.
وقد استهل أحمد الثالث حكمه بسماحة للإنكشارية بأن يملوا عليه اختياره لكبير وزرائه (الصدر الأعظم). وهذا الوزير هو الذي قبل رشوة بلغت ٢٣٠. ٠٠٠ روبل بعد أن قاد ٢٠٠. ٠٠٠ تركي ضد ٣٨. ٠٠٠ جندي من جيش بطرس الأكبر عند نهر بروت، لقاء سماحه للقيصر المحاصر