تجربة الفرد أو النوع؛ فمثل هذا الاشتقاق البعدي خليق بأن يسلب المبادئ الأخلاقية تلك الكلية وذلك الإطلاق اللذين هما في رأيه شرط للمبدأ الأخلاقي السليم. ثم أعلن بما تميز به من ثقة بالنفس:"أنه من الواضح أن المفاهيم الأخلاقية كلها مستقرة ومتأصلة قبلياً في العقل كلية"(٣٩). وقد استهدف كتابه الثاني الكبير "نقد العقل العملي" العثور على ذلك المستقر والأصل وإيضاحه. فسيحلل العناصر القبلية في الأخلاقية كما حلل الكتاب الأسبق في النقد العناصر القبلية في المعرفة.
يزعم كانت أن لكل فرد ضميراً، إحساساً بالواجب، وعياً بقانون أخلاقي آمر. "شيئان يملآن العقل بالإعجاب والرهبة المتجددين المتعاظمين أبداً … السموات المرصعة بالنجوم من فوقنا، والقانون الأخلاقي في داخلنا"(٤٠). وكثيراً ما يتعارض هذا الشعور الأخلاقي برغباتنا الحسية، ولكننا ندرك أنه عنصر أسمى فينا من طلب اللذة. وهو ليس ثمرة التجربة، إنما هو جزء من بنائنا النفسي الأصيل، مثل المقولات؛ وهو محكمة باطنية حاضرة في كل شخص من كل جنس (٤١). وهو مطلق الحكم، يأمرنا أمراً غير مشروط، وبغير استثناء أو عذر، بأن نفعل الحق من أجل الحق، كغاية في ذاته، لا كوسيلة للسعادة أو الثواب أو لخير غيره. فأمره مطلق.
وهذا الأمر المطلق يتخذ شكلين:"أعمل بحيث تستطيع قاعدة إرادتك أن تظل على الدوام صادقة كمبدأ للتشريع العام"؛ أسلك بحيث إذا سلك الغير مثلك سار كل شيء على ما يرام، وهذه (الصيغة المعدلة من القاعدة الذهبية-أي التي تأمر بمعاملة الناس كما تحب أن يعاملون) هي "القانون الأساسي للعقل العملي الخالص"(٤٢)، وهي "الصيغة لإرادة خيرة خيراً مطلقاً (٤٣). وفي صيغة ثانية، "أعمل بحيث تعامل الإنسانية، سواء ممثلة في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، وفي كل حالة، كغاية لا كمجرد واسطة إطلاقاً" (٤٤)، -في هذه الصيغة الثانية أعلن كانت مبدأ أشد ثورية من أي شيء احتواه الإعلان الأمريكي أو الفرنسي لحقوق الإنسان.
والإحسان بالالتزام الخلقي دليل إضافي على قدر من حرية الإرادة.