الشعبية التي نشأت بطبيعتها من حاجات الناس وتعاونهم الاختياري هي التي مكنت الصين من أن تحتفظ بنظامها واستقرارها رغم ما يشوب القانون والدولة من لين وضعف.
ولكن الصينيين ظلوا أحرارا من الناحيتين السياسية والاقتصادية في داخل هذا الإطار من نظم الحكم الذاتي التي أقاموها بأنفسهم لأنفسهم.
لقد كانت المسافات الشاسعة التي تفصل كل مدينة عن الأخرى وتفصل المدن كلها عن عاصمة الإمبراطورية، والجبال الشامخة والصحاري الواسعة والمجاري التي تتعذر فيها الملاحة أو لا تقوم عليها القناطر، وانعدام وسائل النقل والاتصال السريع وصعوبة تموين جيش كبير يكفي لفرض سلطان الحكومات المركزية على شعب تبلغ عدته أربعمائة مليون من الأنفس - كانت هذه كلها عوامل تضطر الدولة لأن تترك لكل إقليم من أقاليمها استقلالا ذاتيا يكاد أن يكون كاملا من كل الوجوه.
وكانت وحدة الإدارة المحلية هي القرية يحكمها حكما متراخيا رؤساء العشائر بإشراق "زعيم" منهم ترشحه الحكومة. وكانت كل طائفة من القرى مجتمعة حول بلدة كبيرة تؤلف "بينا" أي مقاطعة بلغت عدتها في الصين نحو ألف وثلاثمائة. ويتألف من كل بينين أو أكثر تحكمهما معا مدينة "فو"، ومن كل فوين أو ثلاثة "داو" أي دائرة، ومن كل داوين أو أكثر "شنج" أي إقليم. وكانت الإمبراطورية في عهد المنشو تتألف من ثمانية عشر من هذه الأقاليم. وكانت الدولة تعين من قبلها موظفا في كل بين يدير شئونه، ويجبى ضرائبه، ويفصل في قضاياه، وتعين موظفا آخر في كل فو وآخر في كل داو؛ كما تعين قاضيا، وخازنا لبيت المال، وحاكما، ونائبا للإمبراطور أحيانا في كل إقليم (١٢٧). ولكن هؤلاء الموظفين كانوا يقنعون أحيانا بجباية الضرائب والفروض الأخرى