للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكومية مستتبة؛ فتراكمت الثروة وأتجه إنفاقها نحو أسباب حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى جاءت عصور أسرة مديتشي و "صالونات" "التنوير الفرنسي" (١).

وأصبحت "كيوتو" بمثابة باريس وفرساي في فرنسا، رقيقة قي شعرها وثيابها، رشيقة في أخلاقها وفنونها، تضع للأمة كلها معايير المعرفة والذوق، وانفتحت "الشهية" عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان (٣٢)، وتزمَّل كل سيد أو سيدة بالحرير ونفيس الثياب، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على كل كم تلبسها ذراع، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والذهب والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر (٣٣)؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.

أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة، يغلب ألا تدوم طويلاً، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة أن تذروها عوامل تذبذب التجارة، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة العلمية، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون أن يستوقف انتباههم، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن وازدادت الجرائم بين الفقراء بقدر ما ازدادت أسباب


(١) عهد التنوير في فرنسا هو القرن الثامن عشر. (المعرب)