حيناً بعد حين، وكانت الكثرة الغالبة من القصائد قصيرة بعد عهد "نارا"، فهذه مجموعة "كوكنشو" التي تحتوي ألفاً ومائة قصيدة، لا تجد إلا خمساً منها فقط صيغت في صورة الـ "تانكا"- وهي صورة تكون فيها القصيدة مؤلفة من خمسة أبيات، أولها من خمسة مقاطع وثانيها من سبعة، وثالثها من خمسة، ورابعها من سبعة، وخامسها من سبعة، كذلك وليس في هذه القصائد قافية، ذلك لأن ألفاظ اللغة اليابانية كلها تقريباً تنتهي بحرف مد، فلا تترك مجال الاختيار أمام الشاعر من الاتساع بحيث ينتفي مختلف القواف، وكذلك ليس في شعرهم تفعيلات ولا نغم ولا مقدار معين من الكلمات في البيت الواحد، لكنك تجد فيه كثيراً من ألاعيب اللغة، فتراهم مثلاً يضيفون مقاطع في أوائل الكلمات لا يكون لها معنى سوى ما تضيفه إلى الكلام من تنغيم، ويستهلون قصائدهم بأبيات تعمل على تكملة الصورة أكثر مما تؤدي إلى تمام الفكرة، ويربطون العبارات بألفاظ تحمل معنيين على نحو يثير في القارئ الدهشة والانتباه، ولقد خلع الزمن ثوباً من الجلال على أمثال هذه الألاعيب اللفظية عند اليابانيين، كما هي الحال في توافق اللفظ والمعنى وفي القافية عند الإنجليز، وأشعارهم محببة لدى طبقات الشعب، ومع ذلك فلا يؤدي ذلك بالشاعر إلى السوقية في شعره، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ تميل هذه القصائد الكلاسيكية إلى الأرستقراطية في فكرها ولفظها، فلأنها ولدت في جو تشيع فيه أبهة القصور، تراها مصوغة صياغة روعي فيها الإحكام على نحو يكاد يجعل منها تعبيراً عن الأنفة والكبرياء، وهذه القصائد تنشد كمال اللفظ والصياغة أكثر مما تبحث عن جدة المعنى، وهي تكسب العاطفة أكثر مما تعبر عنها، وهي في كبريائها أرفع من أن تطنب القول وتطيل، فلن تجد أرباب القلم في أي بلد من بلاد الأرض سوى اليابان، لهم ما لأدباء اليابان من تحفظ في القول يعترفون به اعترافاً صريحاً، فكأنما أراد شعراء اليابان أن يكفروا بتواضعهم في القول عما زل فيه مؤرخوها من تهويل في الفخر بأنفسهم،