تتحدث من خلاله لوازم الأحداث والظروف - لتحيل التفرّق إلى وحدة. والفوضى إلى معنى مؤثر. هنا - في فرنسا أولا ثم في وسط أوربا - كانت توجد روح العصر Zeitgeist: الحاجة إلى الانضباط والنظام، نهاية الإفراط المدمّر في الحرية الفردية، والإفراط المدمر في تشظِّي الحكم (المقصود تقسيم أوربا إلى كيانات سياسية صغيرة يحكم كل منها حاكم). بهذا المعنى كان نابليون قوة تقدميّة، أرسى دعائم الاستقرار السياسي، وأعاد القيم الأخلاقية ونظم الهُويّة وحدّث القوانين ونقّاها وقنّنَها (نظّمها)، وحمى الحياة والممتلكات، وأنهى الإقطاع أو خفّف وطأته، وطمأن الفلاّحين وقدم العون للصناعة، وحافظ على العملة الصحيحة، وطهرّ الإدارة والقضاء وطوّرهما وشجع العلوم والفنون (لكنه لم يشجع الأدب وقمع الصحافة) وشيّد المدارس، وجمّل المدن وأصلح بعض ما دمّرته الحرب، وبفضل حثّه وَدَأَبِه تقدّمت أوربا في ظرف الخمسة عشر عاما التي حكم فيها تقدماً ما كان يحدث إلا في خمسين عاما.
ولم يكن نابليون هو أقوى قوة في عصره وأكثرها دوما، فقد كانت الثورة الصناعية أقوى منه، فقد جعلت بريطانيا العظمى من الثراء بحيث أمدّت وموّلت كي تُسقط نابليون، وبعدها جعلت هذه الثورة الصناعية من أوربا قوّة فعّالة بحيث سيطرت على الكرة الأرضية ثم إن هذه الثورة الصناعية استطاعت بعد ذلك أن تجعل من أمريكا قارة ذات موارد بما يكفي لإنقاذ أوربا وتعويض ما نقص فيها وما كان يلي الثورة الصناعية في القوة هو الثورة الفرنسية التي بدأت في فرنسا ١٧٨٩ والتي هي بدورها أقوى من نابليون (ابن الثورة) بكثير وأبقى منه بمراحل، فهذه الثورة الفرنسية (١٧٨٩) نشرت تأثيراتها في كل أنحاء أوربا إذ ألغت الروابط الإقطاعية والرسوم الإقطاعية وأحلّت محلها الحقوق الفردية، وجعلت الجياع (المتعطشين) على مستوى العالم يجدون فيها (أي في الثورة الفرنسية أوضح صوت معبرّ عنهم: الجياع للحرية - حرية الحركة والنمو والعمل الاقتصادي والعبادة والفكر والصحافة، والجياع للمساواة - في الفرص المتاحة والتعليم والصحة والعدالة القانونية.
هؤلاء الجياع (المتعطشون) المعادون - لما هو قائم أخذوا دورهم في السيطرة على تاريخ الإنسان المعاصر: لقد أصبح التعطش للحرية، والضرر الناتج عن المساواة موضوعْين أثيرْين تمّ