بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث أن ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه؛ غير أن الأميرال "توجو" استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على علم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٠٥، وأبرق "توجو" لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ قال:"إن نهوض الإمبراطورية أو سقوطها يتوقف على هذه المعركة"(١٠)، فقتل من اليابانيين فيها ١١٦، وجرح منهم ٥٣٨، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أو أسرت كل سفنهم إلا ثلاثاً.
كانت "موقعة بحر اليابان" نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأن يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك أن آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها أن توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما جاءت سنة ١٩١٠ حتى أعلنت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما مات الإمبراطور "ميجي" عام ١٩١٢، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع أن يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وقطعت شوطاً بعيداً في طريقها نحو أن تكون محوراً للتاريخ كله.