لم يخفها عن العين بل يتركها واضحة جلية- قطة متحفزة، تستعد للهجوم دون أن يراها أحد على طائر مدل بنفسه ينشنش ريشه في الشمس. ويصل الرسام الكريتي في العصر المينوي المتأخر إلى ذروة مجده، فكل جدار يغريه وكل ثريٍّ يستدعيه، وهو لا ينقش مساكن الملوك وحدها، بل ينقش بيوت النبلاء وأثرياء البلاد، ويزينها بما لا يقل عن زينة بيوت بمبي. على أن نجاحه هذا وكثرة ما ينهال عليه من الطلبات لا يلبثان حتى يفسدا عليه أمره، وسرعان ما يؤدي حرصه على أن ينتهي مما بين يديه إلى قصوره عن الارتقاء إلى ما يقرب من الكمال فيما يصنع، فيفضل الكم على الكيف، ويكرر رسوم الأزهار حتى يمل الناظر إليها من التكرار، ويصور الرجال بصور لا وجود لها في الحياة الواقعية، ويقنع برسم الخطوط الخارجية، وينحط بفنه إلى المستوى الذي يدرك فيه أن هذا الفن قد جاوز مجده الأعلى وأنه قد آن أوان موته. ولكن من حقه علينا أن نقول إن التصوير لم يمثل الطبيعة بمثل النضارة التي مثلها بها التصوير الكريتي، مع جواز استثناء مصر القديمة وحدها من هذا التعميم.
وتتضافر الفنون كلها على بناء القصور الكريتية، فالقوة السياسية، والسيادة التجارية، والثراء، والترف، وما تجمع في البلاد من رقة وسمو في الذوق، كل هذا يحتم على المهندس، والباني، والصانع، والمثال، وصانع الفخار والمعادن، والنجار، والمصور، يحتم على هؤلاء كلهم أن يجمعوا ما وهبهم الله من حذق ليشيدوا به طائفة من حجرات ملكية، ومكاتب إدارية، وملاه، وحلبات ألعاب لتكون محور الحياة الكريتية ومشاهد رقيها ووعظمتها. يبنون في القرن الحادي والعشرين ثم يتهدم بنيانهم في القرن العشرين، فإذا جاء القرن السابع عشر لا يكتفون فيه ببناء قصر مينوس بل يشيدون كثيراً غيره من الصروح الفخمة في نوس وفي نحو خمسين مدينة أخرى في الجزيرة المثرية الرخية. ولقد كان عصر الحضارة الكريتية من أزهى العصور في تاريخ العمارة.