الأميال فوق الصخور الوعرة ليقفوا على قمة الجبل- متزنين على لسان بارز من الصخر بين المرتفعات التي يكسوها الضباب من جهة والبحر الذي تسطع عليه الشمس من جهة أخرى، ويحيط بهم من جميع الجهات جمال الطبيعة وأهوالها- لم يكن هؤلاء اليونان يشكُّون في أن من تحت هذهِ الصخور إله رهيب. وكثيراً ما زلزلت الأرض في هذا المكان وقذفت الرعب في قلوب الفرس النهابين، ومن بعدهم بمائة عام في قلوب الفوقيين النهابين، وبعد مائة عام أخرى في قلوب الغالبين النهابين؛ وكانت الزلازل في اعتقاد اليونان من فعل الإله يحمي بها قراره. وكان العباد المتدينون يؤمون هذا المكان من أقدم الأزمنة التي تتحدث عنها التواريخ اليونانية ليجدوا في الرياح التي تهب بين الأخاديد، أو الغازات التي تنبعث من باطن الأرض، صوت إلههم وإرادته. وكانت الصخرة العظيمة، التي تكاد تسد الفتحة التي تنبعث منها الغازات وسط بلاد اليونان كلها في اعتقاد الأهلين، ومن ثم كانت هي سرة العالم أو أمفالوسه Omphalos كما كانوا هم يسمونها.
وقد شادوا فوق هذهِ السرة مذابحهم لجي أمهم الأرض في الأيام القديمة، ثم لأبلو مالكها الأزهر فيما بعد. وكانت تحرس الأخدود في الزمن القديم أفعى رهيبة فتصد عنه الرجال؛ حتى قتلها فيبوس Phoebus بسهم وأصبح هو أبلو البيثيين الذي يُعبد في هذا الضريح. ولما أن دمرت النيران في عام ٤٨ هيكلاً قديماً أعاد بناءه الأشراف الألكميونيون المنفيون من أثينة بأموال اكتتبت بها بلاد اليونان كلها وبأموالهم هم، وجعلوا له واجهة من الرخام. وأحاطوه برواق دوري الطراز، وأقاموه من الداخل على أعمدة أيونية. وقلما رأت بلاد اليونان ضريحاً مثله من قبل. وكان طريق مقدس ملتف حول الجبل يؤدي إلى المزار، ويزدان في كل خطوة بالتماثيل والأروقة والخزانات أي الهياكل الصغيرة التي أقامها عند تخومه المقدسة) في أولمبيا، ودلفي، وديلوس المدن اليونانية (لتودع فيها أموالها أو لتكون