وإن اختلاف الحرارة في جَوّها الذي تكوّن بهذه الطريقة قد نشأت عنه حركة الرياح. ونشأت الكائنات الحية بمراحل تدريجية من الرطوبة الأولى؛ وكانت الحيوانات الأرضية في بادئ الأمر سمكاً، ولم تتشكل بأشكالها الحالية إلا بعد أن جفت الأرض. وقد كان الإنسان هو الآخر سمكة، ولا يمكن أن يكون من أول ما ظهر على الأرض قد ولد بالصورة التي هو عليها الآن، وإلا لكان عاجزاً عن الحصول على طعامه، ولهلك (٣٦).
وكان أنكسمينيز Anaximenes تلميذ أنكسمندر أقل منه شأناً، والمبدأ الأول عنده هو الهواء. ومن الهواء تنشأ جميع العناصر الأخرى بالتلطيف (تقليل الكثافة) وبه تحدث النار، وبالتكثيف وبه تحدث على التوالي الرياح والسحب والماء والأرض والحجارة. وكما أن الروح وهي هواء، تمسك أجسامنا فكذلك يكون هواء العالم (النوما Pneuma) هو روحه السارية فيه كله أو نفسه أو الإله (٣٧)، وتلك فكرة لا تنال منها جميع أعاصير الفلسفة اليونانية، وتجد لها عاصماً في الرواقية والمسيحية.
ولم تنتج هذه الأيام مجد ميليتس وعزتها أقدم ما أنتجته الفلسفة اليونانية فحسب، بل أنتجت أيضاً أقدم النثر وأقدم التاريخ المدون في بلاد اليونان كلها (١). ويبدو أن قول الشعر أمر طبيعي في شباب الأمة، حين يكون الخيال فيها أعظم من المعرفة وحين يجسد الإيمان القوي قوى الطبيعة في الحقل، والغابة، والبحر، والجو. وإن من أصعب الأشياء على الشعر تجنب تجسيد القوى ومنحها روحاً، كما أن أصعب الأشياء على هذا التجسيد وذاك المنح أن يتجنبا الشعر. أما النثر فهو صورة المعرفة التي تخلصت من الخيال ومن الإيمان، وهو لغة الشؤون العادية الدنيوية غير الدينية، وهو رمز نضوج الأمة والشاهد على انقضاء عهد
(١) على القارئ الحكيم أن يضع لفظ المعروف بعد كلمتي أقدم وأول وأمثالها.